نعيش هنا في الشام وكأننا في طولكرم ولم نشعر بغربة … بسام لطفي لـ «الوطن»: العطاء وحب الوطن تعلمته من أمي.. وعن أبي رجاحة العقل
| سوسن صيداوي
المكان.. طولكرم في فلسطين، الزمان.. 1941، أما الاسم فقد تغير من بسام أبو غزالة إلى بسام لطفي في زمن كان الكل يعتبر فيه الفن مهنة معيبة أو غير ذات أهمية أو قيمة، مقارنة بالتحصيل العملي أو حتى مزاولة المهن أياً كانت.
كانت الأحداث في طولكرم سبباً لانتقاله واستقراره في سورية وبالتحديد في دمشق، كي يكسب من سحر هذه المدينة العريقة ويتابع هوايته في السير بين أزقتها وحاراتها الشاهدة حجارتها على تاريخ حافل، ساعياً وراء هاجسه الفني الذي اعتنقه حباً على الرغم من كل التوجيهات من الأهل، وبالتالي أصبحت في حياته مهنة يزاولها سواء أكانت في التمثيل المسرحي أم التلفزيوني والسينمائي أم الإذاعي، عطاء فني كبير راكمته السنون الكثيرة مكرساً فيه الفنان بسام لطفي حسن الالتزام بالقضية الوطنية والعربية، مع أهمية الاختيار لكل ما هو جاد وملتزم حتى على الصعيد الاجتماعي مبتعداً عن كل ما هو تجاري في أزمنة متكررة فيها من يسعى للربح والشهرة، غافلاً عن أهمية الاستمرارية وضرورتها ولو كان الاختيار صعباً، مجسداً لإدوار لن يقدر غيره على تقديمها ولو اقتصرت على مشهد واحد، من بين حكم العدالة والشخصيات الروائية كانت البرامج التعليمية في الإذاعة، وفي السينما كانت أفلام كثيرة منها فانية وتتبدد، رجال تحت الشمس، سافاري، عملية الساعة السادسة، ومن التلفزيون أعمال درامية كان لها الحضور اللافت منها ما ملكت أيمانكم، يوميات مدير عام، بطل من هذا الزمان، صقر قريش، أبو كامل، حمام القيشاني، الدبور، التغريبة الفلسطينية، المسيرة حافلة والعطاء إلى الآن لا يمكن أن ينضب سواء في متابعة أمور الفنانين في العمل في نقابة الفنانين أم في العمل الإذاعي. جريدة «الوطن» التقت الفنان بسام لطفي وإليكم الحوار معه:
أنت من مواليد طولكرم من فلسطين من أب فلسطيني وأم شامية من الشاغور، ماذا أخذت من صفات والدك ووالدتك؟
لما كنا في طولكرم كنا في حالة مادية جيدة وكان والدي حاصلا على شهادة «أهلية التعليم» من لبنان، فكان مدرسا ولديه محل تجاري، وعندما جاء جيش الإنقاذ، وكلّهم سوريون، قرر أهالي طولكرم الاعتناء بالجرحى فتبرعت والدتي بأن تحضّر الطعام لهم، ومن هنا أنا أخذت أول درس بالعطاء والتطوع وحب الوطن، على الرغم من أنني وانطلاقا من حسي الطفولي قلت لها من دون تردد «ماما نحن لسنا بحاجة إلى مصاري كي تذهبي وتحضّري الطعام بالمشفى للجرحى»، فقالت لي «يا ماما أنا لن أحصل على نقود مقابل هذا العمل بل هو بالمجان وتطوعي، وسأحضّر الطعام لهؤلاء الجنود السوريين الذين جاؤوا كي يدافعوا عنا هنا وهم في الوقت نفسه أولاد بلدي»، بعدها كان خالي طلب من قائد جيش الإنقاذ أن نذهب إلى الشام لمدة شهرين أو ثلاثة لحين انتهاء الأحداث، وهذا ما حصل، ذهبنا إلى الشام وبقينا في منزل بيت جدي في الشاغور مدة، ولأنّ عودتنا إلى طولكرم كانت محفوفة بالمخاطر، قرر أهلي البقاء في الشام واستأجر أبي منزلاً في حي الشعلان، حينها كان وضعنا المعيشي كما يقال «على الحديدة»، ولكن أنقذتنا شهادة أبي وكان تمّ تعيينه من وزارة التربية في قرية في الريف الإدلبي وبقي فيها ثلاث سنوات، في تلك الأثناء لم يكن في القرية مخفر ولا محكمة، كان فيها المختار فقط والأستاذ لطفي، أبي، الذي كان يعود إليه كل من لديه مشكلة على اعتبار أبي رجلاً حكيماً وعاقلاً، وحتى بعد عودته وتعيينه مديراً في مدرسة ابن خلدون في السويقة في دمشق، بقي لمدة عامين يأتينا الزوار من القرية نفسها طالبين النصح منه لحل مشاكلهم، ومن هنا أيضاً أخذت من والدي القدرة والموازنة في اتخاذ قراراتي والتفكير بحكمة في اختياراتي والاحترام لمن هم أكبر سناً والعطف على من هم أصغر.
كم أخاً وأختاً كنتم؟
كنا ثلاثة شبان، وأنا أصغرهم، إضافة إلى ست أخوات، وضعنا المعيشي كان صعباً جداً، ومن الأمور التي لا يمكن أن أنساها كان أخي في الصف التاسع وفي حاجة إلى معطف شتوي لأنه يرتدي قميصاً رقيقاً عند الذهاب إلى المدرسة، وكانت أمي تضع له جرائد تحت قميصه كي ترد عنه البرد، صحيح طفولتنا كانت صعبة إلا أنه والحمد لله، أصبح أخي طبيباً وأخي الأكبر مهندساً وكلنا نجحنا فيما اخترناه.
هل نجاح إخوتك في الدراسة والتعلّم لأن والدك كان مدرساً وشديداً في هذا الأمر؟
عاد أبي إلى دمشق بعد أن أنهى خدمته في ريف إدلب وكان يهتم بعلمنا ويقوم بتدريسنا وبتحفيظنا دروسنا في المنزل، وفي مرة حصلّت مجموعا لم يكن جيداً من العلامات، فأرسل أبي إلى المدرسة أخي كي يطلب من المدّرس أن يؤنبني «بالفلقة»، كنت بعمر الاثني عشر عاماً ولكن بعدها حصلت على شهادة الابتدائية بدرجة جيد جدا.
الواقع المعيشي الصعب هو من جعلك تعمل في طفولتك؟
وأنا في عمر العاشرة كنت طفلا «كثير الغلبة» والشغب إلى حدّ كبير، لهذا قرر أهلي أن أعمل في محل لصناعة المفاتيح وأصحابه هم أشقاء أمي، وبالتالي أمضيت النهار في المحل وأنا أصنع المفاتيح، وأعود في المساء ملوثاً من الحديد ومعي «خرجيتي» وهي ثلاثة فرنكات، ولأن أختي الكبرى هي من كانت تهتم بي وبنظافتي بعد عودتي كنت أعطيها فرنكا والفرنك الثاني لأمي والثالث كان لي، ثم بعمر السادسة عشرة وما بعدها انتقلت إلى مرحلة ثانية.
بما أننا هنا مازلنا نتحدث عن الطفولة، عند انتقالكم من طولكرم إلى الشام ألم تشعر بالغربة أو بالحنين إلى أطفال الحي هناك؟
لا أبداً.. كنا نعيش هنا في الشام وكأننا في طولكرم، ولم نشعر بأي غربة.
لنعد إلى المرحلة الثانية من حياتك بعمر السادسة عشرة والتي معها بدأ الحس الفني والسعي إلى المسرح؟
في هذه المرحلة التقيت جاري وصديقي الممثل سليم صبري، ومن هنا بدأت برفقته في مشوار التمثيل، فهو كان لديه الرغبة الكبيرة في أن يكون ممثلاً وأنا كذلك لكوني متابعاً للأفلام والمسلسلات المتاحة.
وبعدها أسستم المسرح العربي؟
صحيح.. أسسنا المسرح القومي في نادي الشباب العربي حيث طُلب منا أن يكون خطه ملتزما ووطنيا، وقتها لم يكن هناك مسرح قومي فأحضرنا نصوصاً وحولناها إلى مسرحيات.
ستة عشر عاماً وعندكم كل هذا الالتزام تُجاه الوطن والقضية؟
نعم.. لدينا التزام كبير تُجاه الوطن وتُجاه محبتنا له، ولم يكن ذلك فقط، بل كانت التزاماتنا تُجاه أعمالنا كبيرة فكان مثلا مطلوباً منا أن نؤمّن الديكورات ونبيع البطاقات والكثير من الأمور الأخرى.
ولكن جيل اليوم ومن العمر نفسه غير معني بتاتاً بما كان يهمكم أو يعنيكم؟
صحيح.. بل هو معني بأمور هامشية وسطحية، على حين كنا معنيين بقضايا وأمور هي أكبر من عمرنا.
حتى كنتم تعملون بالمجان؟
نعم.. بل كان ريع ما نقدمه يذهب لمصلحة جمعيات خيرية، وقد قدمنا مسرحية عن الثورة الجزائرية ومسرحية «جميلة بوحيرد» وبعنا البطاقات وذهبت لمصلحة جبهة التحرير الوطني الجزائري وبرعاية وزير الداخلية.
المسيرة مع المسرح استمرت أكثر من أربعين عاماً بل أكثر كهواية، ولكن ماذا عن الدراما السورية وبداياتك فيها مع تأسيس التلفزيون السوري؟
كان صباح قباني يختار من سيعملون في التلفزيون السوري، ولكن لم تكن قضيته قضية ممثلين بل قضيته بأن يصبح هناك تمثيل وعلى مستوى جيد، فلم يختر ممثلين، بل من كان يقوم بذلك هو المخرج سليم قطايا فهو أهم المخرجين في التلفزيون السوري وكان كُلّف للتحضير لأول تمثيلية وكانت باسم «الغريب»، فأرسل المخرج في طلبي وكان شاهد إحدى مسرحياتي. عندما ذهبت نظر إليّ وقال لي «مثّل»، فقلت «ماذا أمثّل.. هاأنذا أمامك وعلى أساسه ارفضني أو اقبلني»، فقال لي «أنت جيد.. وأريدك أن تكون معنا في التمثيلية»، شارك معي فيها ياسر أبو الجبين وثراء دبسي كبطل أول، وأنا بطل ثان، بعد أسبوع التقيت المخرج سليم قطايا من جديد وأخبرني أنه عند توقيع الأجور من صباح قباني رفض الأخير أن يكون أجري هو المخصص للبطل الثاني والمقدر بخمسة وسبعين ليرة، بل حدّد الأجر وكأنني بطل أول فأصبح مئة وخمسين ليرة، وكانت هذه أول مكافأة لي من الدكتور صباح قباني.
عُرف عن الدكتور صباح قباني أنه رجل موضوعي ويكافئ المجتهدين؟
كان يقدّر كل من يقوم بعمله بشكل جدّي، تصوري في تلك الأثناء كان التلفزيون السوري مؤلفاً من خمسة وثمانين موظفاً، والمعدات بسيطة لا تقارن بما هو متاح بالوقت الحالي سواء من جودة المعدات أو حتى من عدد الموظفين، وكان عصراً ذهبياً وأفضل من هذا العصر.
ما الذي تغير حتى تحول العصر من ذهبي إلى وضعه الحالي؟
حب المهنة.. نحن لم يكن طمعنا مادياً أبدا وكان لدينا إخلاص للعمل وللزملاء، حتى لم يكن هناك ما نشهده اليوم من تصرفات تسيء للممثلين في توزيع الأدوار في الأعمال الفنية التي نقدمها، فمثلا في الماضي طلب مني أحد الفنانين أن أعتذر عن دور في مسلسل لأجله، وبالفعل قمت بذلك، هذا أمر لا نشاهده اليوم ولا يوجد في الساحة الفنية من يضحي بدور وقع عليه من أجل زميل له.
كل ما قدمته من مسرح وحتى سينما هو ملتزم بقضايا وطنية بالدرجة الأولى وبقضايا المجتمع؟
في الماضي كانت الأعمال السينمائية التجارية منتشرة جداً، ولكن أنا لم أقبل أدواراً إلا من المؤسسة العامة للسينما وكلّها أدوار جادّة وملتزمة، وحتى الأفلام التي صورتها في الخارج كانت ملتزمة.
حتى لو حاولوا أن يرفعوا سقف الأجر كي يغيروا رأيك؟
من الأساس كنت أرفض العرض، ولم أتفاوض أبدا على الأجر، وعلى الرغم من قلة أجور الأدوار التي كنا نقوم بها في مؤسسة السينما، إلا أنني كنت سعيداً بها.
علاقتك بالفنان سليم صبري ما زالت مستمرة؟
بالطبع.. علاقتي بسليم صبري ما زالت مستمرة، فهو أول صديق لي وهو ابن حارتي وأول من عملت معه بالفن.
إلى أي مدى أسهم المسرح في إطلاقك دراميا؟
لقد ساعدني كثيراً وخاصة أنه مطلوب مني أن أحفظ النص، فالغلط ممنوع ونادراً ما يحدث نتيجة البروفات المكثفة، وعندما اتبعنا الأسلوب نفسه في الدراما من حيث البروفات والتحضير للبث المباشر، وقوع الغلط كان نادراً، بعكس اليوم فالأمر أصبح صنعة وبإمكاني أن أصور مشهد النهاية رغم أنني لم أصور أي مشهد في المسلسل، فتصاعد الحس الدرامي يخف على حين كنا نقوم بتسجيل التمثيلة مرة واحدة خلال عرضها المباشر، الأمر الذي يكون مشحونا بالحماس والانضباط وغيره من الأمور المهمة.
إذاً الممثل الحقيقي هو ممثل المسرح وليس ممثل الدراما؟
المسرح هو من يؤسس الممثل تأسيساً جيداً، ومن المسرح يمكنه أن ينطلق إلى الإذاعة والتلفزيون والسينما.
هل تتابع المسرح في الوقت الحالي؟
لا.. فطبيعة ما يقدمونه مختلف عما قدمناه، فنحن كنا نقدم في الموسم أربع مسرحيات من الأدب العربي والأدب العالمي ومن التراجيديا، اليوم اختلف الأمر فهم يعتمدون اليوم على قصة أو رواية مع عدد من الممثلين، وحتى عدد الممثلين اختلف، ففي زمننا كانت المسرحية تتألف من ثلاثين ممثلا.
إذاً ما سبب انحدار المسرح هل هو الاستسهال؟
لا… نحن كنا نشعر بالحزن إذا لم نحظ بدور في المسرحية المقدمة من دائرة المسارح، على حين اليوم الممثل يشعر بالحزن إذا تمّ اختياره لدور ما، ما عقد الأمر على المخرج في إيجاد الممثلين المناسبين لمسرحياته، فهناك الكثير من ممثلي المسرح القومي يتقاضون أجوراً رغم أنهم لم يمثلوا أي دور.
أنت من الفنانين الذين لا يهتمون بطول الدور من حيث عدد المشاهد، وتوافق على الدور حتى لو اقتصر على مشهد واحد كما في مسلسل باب الحارة؟
أحببت هذا الدور لأن الكنيسة هي من ساعدتنا عندما أتينا إلى سورية، وعندما وقع عليّ الاختيار وخاصة أنه لا يوجد ممثل يقوم بذلك، فقبلت وببساطة تامة، وهنا أريد التأكيد أن ما يهمني في الأعمال المخرج بالدرجة الأولى، مثلا المخرج باسل الخطيب أو نجدت أنزور لا يمكنهما قبول نص سيئ، هذا أمر يشعرني بالاطمئنان وعندما يتم الاختيار يكون صائباً.
هذا أمر لا يزعجك ولا تعتبر فيه إهانة لمهنيتك أومسيرتك؟
لا، على الإطلاق.. ليس المهم في الاستمرارية هو الحصول على أدوار البطولة المطلقة أو بكثرة المشاهد في الأعمال المقدمة، فالعروض ما زالت تأتيني ولكنني لم أقبل لأنها لا تناسبني.
لماذا صعُب عليك دخول إذاعة دمشق هل بسبب شللية متكررة ولكن بزمن آخر؟
أجمل ما كان يُقدّم في إذاعة دمشق هو ما كانت تقدمه فرقة حكمت محسن من مسلسلات درامية مشوقة، وكان ممنوعاً دخول أحد إلى أن انكسر هذا الطوق في عام خمسة وستين وتسعمئة وألف، حيث استطعت دخول الإذاعة وكان خفّ دورهم وبالتالي أعمالهم.
إذا الأمر لم يكن عن سوء نية؟
لا.. كانت الفترة الدرامية محددة والموجودون يقومون بالغرض المطلوب ضمن ما هو متاح من إمكانيات ومحقق للنجاح المطلوب.
ولماذا لم تحاولوا تغييره؟
لأننا قبل تقاعدنا كان مسموح لنا بالتمديد، ولكن بعد التقاعد لم يعد بإمكاننا التمديد لهذا توقفنا، ولو تقاعدنا قبلها كان يمكن لنا أن نستمر بالعمل المسرحي.
من هواياتك السير في الحارات الدمشقية القديمة؟
نعم.. لأن فيها عبق التاريخ.
هل تذكرك بطولكرم ونابلس؟
دمشق صورة مصغرة عن نابلس وخاصة المباني الحجرية.
كيف تقضي أوقات فراغك؟
أتابع الفيس بوك، لم أعد أطالع كالسابق، ولكنني من مشجعي نادي الوحدة السوري وأتابعه.
حدثنا عن أولادك؟
لدي ابنة وصبيان ومن بينهم إياس وهو الذي أحب الفن وامتهنه وهو بارع جداً في الإذاعة والدوبلاج وفضلهما على الأعمال التلفزيونية.
كيف ترى الشام اليوم؟
أجد فيها حزناً كبيراً ولكن لا يزال هناك أمل، فسورية مرّ عليها الكثير من الغزوات والمحتلين وكلّه ذهب وبقيت الشام وبقيت سورية.