الإستراتيجية الروسية تتقدم
| مازن جبور
تعد الأزمة السورية واحدة من الساحات التي مثلت اختباراً للتوجهات الروسية الجديدة، منذ عودة الرئيس فلاديمير بوتين إلى رئاسة الاتحاد الروسي في آذار 2012، ذلك أن هناك حركة روسية على المستوى الدولي، أبرز ملامحها استعادة بعض من قواعد الاشتباك السياسي والدبلوماسي، والعسكري، وسعت روسيا إلى تعقب المشهد الدولي على إثر حالة الفوضى التي ضربت النظام الدولي بعد انفراد الولايات المتحدة بتوجيه تفاعلاته، ورافقت تعقبها هذا بحراك فاعل وبالأخص في التفاعلات ذات الطابع الصراعي، ما سيعطي لروسيا مكانة عظمى جديدة في نظام عالمي جديد.
أكدت روسيا مبدأ «عدم التدخل» خوفاً من إرساء مبدأ تغيير الأنظمة القائمة عبر التدخل الخارجي، فدعمت الاستقرار والشرعية القانونية في الدول الصديقة لها، واعتبرت مكافحة الإرهاب أولوية على تخوم روسيا الاتحادية وخارج حدودها، وشرعت تستخدم القوة العسكرية المباشرة لحماية الأهداف والمصالح الحيوية خارج نطاق الأمن القومي المباشر في مناطق القوقاز وآسيا الوسطى أو دول شرق أوروبا وصولاً إلى الشرق الأوسط.
يرى المفكر الإستراتيجي الأميركي زبغنيو بريجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج العظمى أن مستقبل بقاء الولايات المتحدة الأميركية في قمّة هرم النظام الدولي يتحدد في أوراسيا من خلال قدرتها على إنشاء تحالفات في هذه المنطقة وما حولها. كما حذر من احتمال قيام تحالف بين الصين وروسيا، وربما إيران، كتحالف مضاد للهيمنة الأميركية. في ضوء هذه المعادلة، يمكن فهم المواقف الدولية من الأزمة السورية.
وفي مطلع هذا القرن، حدد مؤسس المذهب الأوراسي الجديد السياسي والفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين المحاور الجيوبوليتيكية التي ينبغي التحالف معها من أجل إقامة الاتّحاد الأوراسي. ويرى أن إيران الحليف الإسلامي الإستراتيجي الأهم لأنها المدخل الروسي إلى الدول العربية والإسلامية في الوطن العربي وآسيا الوسطى والمياه الدافئة. ويجب على إيران أن تتحالف مع الدول العربية المناوئة للتوجهات الأطلسية، وهي العراق وليبيا بالدرجة الأولى، ثم سورية.
ومع الاحتلال الأنكلوسكسوني للعراق في عام 2003 والتدخل العسكري الغربي في ليبيا على إثر الأزمة الليبية في عام 2011، لم يبق أمام روسيا إلا سورية كدولة معادية للهيمنة الغربية.
إذاً، نستطيع من جهة أن نفهم الموقف الروسي من الأزمة السورية انطلاقاً من المشروع الأوراسي والحاجة لدور الحليف الجيوبوليتيكي الإيراني. ومن جهة أخرى، هناك قلق روسي حقيقي من النفوذ التركي في آسيا الوسطى والعمق الروسي، يستند إلى أسس مذهبية وإثنية.
إن المشروع الأوراسي مسألة حيوية للدولة الروسية لأنه في منزلة الحل لقضية الوضع الروسي الديموغرافي المقلق لدى الروس في ظل النمو الديموغرافي للجنوب الأوراسي، أي الهند والصين، وهو ما قد يدفع نحو التوسع القومي باتجاه الأراضي الروسية، وخاصة سيبيريا والشرق الأقصى. ولكي يكون المشروع مبنياً على أسس سليمة، فإن ذلك يتطلب الحد من التأثيرات الأطلسية عبر النفوذ التركي في آسيا الوسطى من خلال العوامل الإثنية والدينية، كي لا يلقى نهاية مشابهة للاتحاد السوفييتي. ومن هنا نستطيع أن نفهم الموقف الروسي تجاه المسألة السورية بالنظر إليها بوصفها قضية أمن قومي لروسيا.
مما لا شك فيه أن سورية ساحة مهمة لاختبار التوجه الروسي، وقد كشفت الأزمة حتى الآن عن نجاح روسيا في التمسك بثوابتها، إذ اتخذت روسيا منذ اندلاع الأزمة في سورية موقفاً سياسياً قاطعاً برفض التدخل في سورية عن طريق القوة، وأخذت على عاتقها تقديم دعم كبير لسورية شمل الدعم المادي والعسكري والسياسي والدبلوماسي، وذلك لتعزيز قدرة الدولة السورية على مواجهة الضغوطات الدولية والإقليمية، واتخذ هذا الدعم الصورة العلنية بما يحمله ذلك من دلالات، ووفرت روسيا للدولة السورية مظلة حماية دولية من جميع محاولات إدراج الأزمة السورية في إطار عملية دولية تجيز التدخل المباشر، بدا هذا في الاستخدام المكثف لروسيا لحق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن.
ولا تنفصل الحركة الروسية تجاه سورية من جهة أخرى عن حركة متصلة بالصراع الروسي الأميركي الغربي في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وشرق أوروبا، ومن ثم يبدو اتساع التحرك الروسي تجاه سورية جزءًا من المعركة الحقيقية بين هذين الطرفين.
لقد احتلت سورية مكانة ثابتة ومهمة في المنطقة كعنصر مؤثر في التفاعلات الإقليمية، وانعكس ذلك على علاقاتها بالقوى الدولية التي ترتبط بمصالح وعلاقات إستراتيجية في المنطقة.
وتتخوف روسيا من أن يشكل إنتاج الغاز المستقبلي في شرق المتوسط بديلاً إستراتيجياً لأوروبا من الغاز الروسي، وفي هذا السياق تبدو أهمية سورية وما تمثله بموقعها كممر وساحة لعبور الغاز الخليجي شمالاً بالنسبة إلى الطموحات الروسية في المنطقة.
بالخلاصة: تمكنت روسيا من فرض وجهة نظرها في سورية، وتمكنت عبر تكتيكات مختلفة من نقل الصراع في سورية من مرحلة توهُّم تدمير الدولة السورية على غرار نماذج تونس ومصر وليبيا، إلى مرحلة الحرب على الإرهاب، ثم إلى أهمية الجيش العربي السوري في مواجهته نظراً لاستبسال الجيش وتضحياته في دفع روسيا إلى فرض وجهة نظرها على المجتمع الدولي، مضافاً إلى ذلك الالتفاف الشعبي حول الرئيس بشار الأسد.