متغيرات سياسية – مخاضات داخلية- مكاسب سورية
| عبد المنعم علي عيسى
كان من المفترض أن تكون جلسة مجلس الأمن التي عقدت 21/9/2016 لإقرار الاتفاق الروسي الأميركي الذي تم الوصل إليه 9/9/2016، إلا أن ما تريده واشنطن كان غير ذلك ولذا فقد غابت المشاحنات عن تلك الجلسة، وما المسرحية التي لا يزال عرضها مستمراً منذ أسابيع والتي تظهر أن تبايناً واسعاً فيما بين جناحي الإدارة الأميركية (الخارجية والدفاع) فيما يخص الأزمة السورية إلا دليل على تململ أميركي يسعى إلى نسف الاتفاق السابق الذكر أو إدخال تعديلات جوهرية عليه. كان جون كيري واضحاً في رسم معالمها حين قال: إذا ما أريد منا المشاركة في غرفة عمليات مشتركة مع الروس لاستهداف فتح الشام (النصرة سابقاً) فإنه من الواجب أن يتم منع سلاح الجو السوري من التحليق فوق أراضيه، صحيح أن ذلك التباين ليس جديداً وهو قابل للحدوث مرات عديدة إلا أن القرار يبقى محسوماً بوساطة المايسترو الذي يسكن البيت الأبيض تأكيداً لمركزية القرار ولهيبة الولايات المتحدة التي لا يناسبها الظهور بمظهر من لا يستطيع حسم قراراته، ولصورة الإدارة الأميركية ورئيسها باراك أوباما المتهم من خصومه بالتردد والجبن وإن كان يمثل (في رأيي) أهم رئيس أميركي ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد استطاع تحديد المرحلة التي تمر بها الإمبراطورية الأميركية بدقة ومعرفة احتياجاتها المرحلية انطلاقاً من تحديد التناقض الأساسي المحدد لنموها وتطورها.
في تحليل توقيع الاتفاق الروسي- الأميركي وسرعة الانقلاب الأميركي عليه من الراجح أن واشنطن لا تزال تراهن على إحداث انقلاب «شرعي» داخل جبهة النصرة كأن تصدر الهيئة الشرعية منها فتوى شبيهة بتلك الصادرة عن نظيرتها في حركة أحرار الشام 21/9/2016 التي تجيز القتال تحت إمرة الضباط الأتراك (وإن كانت تلك الفتوى قد باتت محل خلاف وانشقاقات في الحركة وهي مرشحة للتصاعد)، ولربما أفضت قنوات الاتصال الأميركية – النصراوية الساخنة إلى إمكان إصدار فتوى نصراوية تجيز القتال تحت إمرة الضباط الأميركان على الرغم من أن ما يطفو على السطح داخلها لا يبدو كذلك ويمكن تلمس حدود السياسة الأميركية الراهنة في سورية عبر ما رسمه حدان مهمان، الأول هو ذهاب واشنطن إلى تقديم اعتذار للرئيس الأسد على خلفية استهداف طائرات التحالف لمواقع تابعة للجيش السوري في دير الزور 17/9/2016 وهو ما أعلنه مصدر سوري وأكده سيرغي لافروف 24/9/2016 (دون أن تنفيه واشنطن إلى الآن) حتى وإن كانت المعلومات تقول إن تقديم ذلك الاعتذار كان بوساطة قنوات غير رسمية والأمر هنا يقرأ كسلوك امتنع فيه الديمقراطيون عن تقديم هدية للجمهوريين في سياق احتدام معركة الانتخابات الرئاسية، والثاني هو التصعيد الذي ذهب إليه وزراء خارجية السعودية وقطر وتركيا في جلسة مجلس الأمن السابقة الذكر والذي استعاد فيه ذلك الثالوث نغمة كانت منسية حين أعاد هؤلاء مطالبتهم بتنحي الرئيس الأسد، وهو أمر يقرأ على أن ذلك الثالوث قد لمس متغيراً ما في الموقف الأميركي حيال هذه النقطة.
الحد الأول يرسم تصوراً بأن واشنطن باتت مقتنعة أن الدولة السورية والجيش السوري هما الكفيلان بمسار سوري بعيداً عن داعش والنصرة أما الرئيس الأسد فهو الضامن لذلك المسار، أما الحد الثاني فهو يشير إلى أن واشنطن ماضية في استخدام كل الضغوط المتاحة لها للتدخل في رسم المستقبل السوري عبر تحديد أولوياته وذراه والشعارات التي سيسير عليها، ومن الممكن هنا فهم المطلب الأميركي بفرض حظر جوي في سورية على أنه قرار أِميركي بالعودة من جديد إلى الميدان لتحسين شروط التفاوض، وما الإعلان الذي تم عن توحيد 21 فصيلاً عسكرياً تحت قيادة أبي محمد الجولاني إلا إرادة أميركية تم تنفيذها بجهود سعودية تركية قطرية على الرغم من أن العديد من تلك الفصائل تمر بمخاضات داخلية كبرى مثل النصرة والجبهة الشامية وأحرار الشام التي نشطت فيها مؤخراً حركة الانشقاقات التي ابتدأها أبو اليقظان المصري قائد كتيبة (مجاهدون أشداء) الذي أعلن عن انشقاقه (وكتيبته) في أعقاب إصدار فتوى تجيز القتال تحت إمرة الضباط الأتراك، وهو توجه جديد بعيد كل البعد عن الأرضية التي قامت عليها الحركة، وفي هذا السياق يقول أبو عبد الله الحموي (حسان عبود قائد ومؤسس الحركة الذي قضى في تفجير رام حمدان بإدلب كانون الأول 2014): «إن أي قوة تطأ الأرض السورية سوف نعتبرها قوة غازية ونقاومها»، التوجه الجديد القاضي بجواز الاستعانة بالأتراك (والخارج) هو على الأرجح بنتيجة مؤثرات تيار الأخوين نحاس (لبيب + كنان) الذي نجح كما يبدو أن يجعل أصحاب هذا التيار الأخير هو الغالب داخل الحركة، الأمر نفسه تكرر في الجبهة الشامية التي تعيش صراعاً داخلياً أيضاً يرفض فيه البعض القتال تحت إمرة الأميركان والأتراك، وقد كان لافتاً ذلك التسريب الصوتي لأحد قياديي الجبهة ويدعى (أبا يوسف) وهو يخاطب فيه أولئك الرافضين للقتال تحت إمرة الأميركان بالقول «عجيب كيف يمكن قبول المساعدات الأميركية على حين يتم رفض القتال تحت إمرة الأميركان» ويضيف: «من يرفض يرفض كل شيء حتى الموك ومن يقبل يقبل كل شيء» 21/9/2016.
ميدانياً: في الوقت الذي أطلق فيه الجيش السوري معركة تحرير حلب 23/9/2016 تشير تقارير ميدانية صادرة عن أحياء حلب الشرقية ومفادها أن تلك البنية التي ابتناها المسلحون في تلك الأحياء منذ تموز 2012 والتي شكلت مستعمرة اقتصادية استطاعت تقديم سلع رخيصة نسبياً نتيجة دخول المواد الأولية الداخلة في تركيبها من دون رسوم جمركية عبر الحدود التركية، تلك السلع الرخيصة لاقت روجاً في الجنوب التركي والشرق السوري ووصلت إلى كردستان العراق لتشكل مصدر دخل مهماً للفصائل المسلحة تعتاش عليه هذه البنية (كما تقول التقارير) تعيش منذ أسابيع مرحلة التفكك والتلاشي وهو ما يؤكد أن تلك البنية تتحضر لحدث مرتقب يتمثل في سيطرة الجيش السوري على حلب الشرقية ما يحتم إغلاق تلك المصانع، ولذا فقد بادر مالكوها إلى إغلاقها استباقاً لما سوف يحدث وتبدو أنقرة الآن- وهو ما كان متوقعاً- ذاهبة نحو محاولات التملص من التفاهمات الإيرانية الروسية التي مكنتها أصلاً من دخول الشمال السوري وهو ما ظهر في الإعلان عن توجه القوات التركية نحو مدينة الباب قبل أن يتلقى الأتراك تحذيراً نقله رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسموف إلى نظيره التركي خلوصي آكار في خلال زيارة الأول إلى أنقرة مؤخراً، الأمر الذي تبدت نتائجه عبر إعلان وزير الدفاع التركي فكري آشيق 21/9/2016 «بأن دور القوات التركية في معركة الباب المرتقبة سوف يقتصر على إسناد جوي» بمعنى أن القوات البرية التركية لن تشارك في تلك المعركة.
وفي المشهد أيضاً لا تبدو مدينة الرقة حالياً هدفاً تركياً ولا أميركياً، وما التصريحات التي احتوت على إمكان قيام عملية عسكرية تركية أميركية لتحرير الرقة إلا للاستهلاك المحلي، فقد حسم أردوغان الأمر أخيراً 23/9/2016 حين قال: «إن أنقرة لن تشارك في تحرير الرقة إذا ما شارك فيها الأكراد»، ومن الناحية العملية فإن الأتراك لا يريدون الوصول إلى مدينة الرقة لكي لا يدفعوا الأميركان نحو خيار حاسم يتعين عليهم فيه اختيار من هو حليفهم الأتراك أم الأكراد، ولأن أنقرة لا تبدو واثقة من أن الاختيار الأميركي سوف يكون لمصلحتها فهي لا تريد الوصول إلى تلك النقطة، أما الأميركان فهم أيضاً لا يريدون تحرير الرقة لكي تبقى هذه الأخيرة نقطة تجمع يلجأ إليها مقاتلو «داعش» المنسحبون من المناطق التي خسروها وخصوصاً أن تقارير الاستخبارات الأميركية الأخيرة تقول إن «داعش» في العراق بات يعيش أيامه الأخيرة.
تجتاح قواعد الأكراد- كما قياداتهم- خيبة أمل كبرى ناتجة عن إحساس بخذلان أميركي لمشروعهم ولربما هذا هو ما يفسر اندفاع الأكراد «أو جزء منهم ممثلاً بـPYD» نحو المزيد من التهور والمغامرة وإن كان هناك جزء مهم منهم يمارس العقلانية السياسية ممثلاً بالسيدة الهام أحمد الرئيسة المشتركة في مجلس سورية الديمقراطية المظلة السياسية لقوات سورية الديمقراطية التي قالت 15/9/2016: «لا مصلحة للأكراد الآن في الإعلان عن قيام دولة مستقلة لأنها ستكون غير قادرة على البقاء نظراً لواقع الدول التي ستجاورها والذي سيكون عدائياً بالتأكيد»، وعلى الرغم من رجحان كفة التيار الأول داخل الأوساط الكردية السورية إلا أن هؤلاء باتوا مدركين أن الخطر الأكبر الذي يتهدد مشروعهم الفيدرالي يتأتى بالدرجة الأولى من الأميركان أنفسهم، فهؤلاء ما انفكوا ومنذ قيام درع الفرات 24/8/2016 يرسلون مجموعات عسكرية صغيرة للمشاركة مع القوات التركية بما فيها العمليات التي تهدف إلى تقدم الأتراك نحو عفرين وللأمر اعتباراته السياسية والمعنوية الأهم من اعتباراتها العسكرية بالتأكيد.
ترى قيادة جبل قنديل أن إفشال العملية العسكرية التركية في سورية لا يكون سوى بالمضي قدماً في المشروع الفيدرالي الكردي في سورية وهو تصور خاطئ سيدفعون أثمانه الباهظة.