تراجع الأخلاقي والقيمي لمصلحة النفعي والمصلحي … الباحث يوسف مصطفى والغوص في الوعي والإحياء والمسؤولية
| هيثم يحيى محمد
الباحث يوسف مصطفى يطرح في كتاباته مسائل عديدة حول المجتمع والوعي والنقد والمسؤولية.. كان الحديث معه حوارياً حول قضايا وهموم وطنية.. وحول بعض كتاباته في هذا المجال ورؤيته في مسألة إعادة إنتاج (القيمي.. الضميري والواجبي) ومدى حاجتنا لوعي جديد وإرادة جديدة وإحيائية جديدة نتجاوز فيها المألوف والسائد لنعيد إنتاج الجديد في فكرنا ووعينا وثقافتنا وممارساتنا..
ماذا تعني بقولك (الوعي الجديد) وإنتاج الوعي الجديد في حياتنا الوطنية؟
أعني بـ(الوعي الجديد) إعادة إنتاج منظومات معرفية نتجاوز فيها السائد والمألوف في الحياة.. والوجود والإرادة والتربية والمسؤولية والممارسة….. إلخ.. وما نحتاجه في حياتنا وخصوصاً أن الأزمة التي يمر بها قطرنا كشفت الكثير من المستور وأصبحت المراجعة حتمية وضرورية.. فصفة الجديد تحمل هنا معنى (التجاوز) للمألوف ورتابته.. وإنتاج صيغ ووسائل وأدوات ومعايير جديدة في الإدارة والاقتصاد والتنمية وكل المناحي الوطنية.. في (الوعي الجديد) هناك لغة الخطاب الجديد ووضوحها ووصولها لجهاتها وللجماهير والأهم صدقيتها ودقتها وتوصيفها.
الوعي الجديد هو (حالة نهوض) حركي لدى الأحزاب والتيارات والثقافات وقوى التغيير الوطنية عبر الإرادات الجديدة وفعلها الجديد ووعيها الجديد.
الوعي الجديد (مشروع وطني) يتبناه الرسمي بمعنى الدولة ومؤسساتها والشعب.
في الوعي الجديد يمارس النقد وتقوم المساواة وتجرى المراجعة وترتقي المساءلة ويحاسب المقصر ويكافأ المنتج وتتعزز المؤسساتية وممارستها.. في (الوعي الجديد) يتقدم العارفون وتستدعى الخبرات ويحمى الجريئون والمبادرون.
فمثلاً في (إدارة الوعي الجديد) يحترم عامل الزمن وتتقدم لغة الأرقام وتتعزز البرامج ويجري الإصغاء والمراجعة وتسود الشفافية والوضوح… إلخ.
في (الوعي الثقافي الجديد) يستحضر الأصيل في الفكر والفن والأدب ويكرم المبدعون وتتعزز ثقافة العقل وتصل هذه الثقافة إلى البيئات والمجتمعات..
في (الوعي الجديد) يعاد إنتاج (الأنا الجمعي) وتعزز ثقافته في وجه ثقافة (الأنا الفردي) المنفعي والاستهلاكي.
الوعي الجديد هو ثقافة (وعي المسؤولية) والإحساس بها وتنمية الضميري الوجداني والتضامني.. إنه ثقافة المراجعة وإعادة البناء.. كل هذا يحتاج (حوامله) وقواه الحية الناهضة وطنياً لإعادة إنتاج الجديد.
تتحدث في بعض كتاباتك وحواراتك عما تسميه (الإحيائية الجديدة) ما المقصود بهذه الإحيائية.. وكيف تكون؟
(المفهوم الإحيائي) مقارب لعدد من المفاهيم والدلالات منها الإحيائية التنويرية النهوضية.. الحداثة.. الإصلاح… إلخ.. وعلى قرب هذه المفاهيم فلكل خصوصيتها يرى البعض أن الإحيائية التنويرية بدأت بعد غزوة نابليون بونابرت لمصر.. ما حملته من صدمة الإحساس بالفارق الحضاري.. وبدأ السؤال أين نحن؟ كيف ننهض؟!
إذاً الإحيائية هي مفهوم (نهوض تجديدي) في قراءة التراث وتحديداً الأصيل منه.. هذه القراءة هي (اجتهادية) تحمل جدتها ورؤيتها وطابعها الإصلاحي ودعوتها المثالية والأخلاقية.. وهكذا فالمفهوم الإحيائي يجمع بين (التواصل والانفصال).. التواصل مع ما يفيد من الماضي وتجاوز كل ما لا يفيد وقد تجاوزه الزمن من فكر وعادات وتقاليد.
والإحيائية لها جوانب عدة.. الإحيائية الثقافية والإحيائية الروحية.. وبالتالي كلها تشتغل على البنى الاجتماعية وتطهيرها الذهني والفكري.. وهذه القضايا اشتغل عليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم.. وهكذا فالمفهوم الإحيائي هو نمط نهوضي وتجديدي.. متكؤه أفكار سابقة لتطويرها في المفهوم والممارسة وهذا ينسحب على الأحزاب والتيارات والثقافات والسياسات وغيرها.. الأهم في المسار الإحيائي هو توفر الجرأة ووضوح الطرح والاستمرار والإرادة والمتابعة.
تدني (الإحساس بالمسؤولية) وعن التراجع القيمي والأخلاقي بسبب طغيان النفعي والمصلحي.. السؤال كيف نعيد إنتاج القيمي في الصدق والأمانة والمسؤولية وغيرها.. ووسائل ذلك؟
القيمية عنوان كبير ومركزي في التربوي والإداري والاجتماعي.. أما استحضار هذه القيم وتمثلها فلا يتم عبر الدعوي والروحي والوعظي فقط بل لابد من تطبيقه عبر القانون ومنطق قيام الدولة.. ما نسميه (قيماً واجبة الوجود) فمثلاً الحفاظ على المال العام لا يتم عبر الوعظي فقط بل عبر القوانين التي تحمي الأمانة وحقوق الناس، ومال الدولة هو ملك لكل الناس ولا يحق لأحد الاعتداء عليه.
عندما يحضر (القيمي) تعود المحبة والتضأمنية والتعاون والمساعدة والسلم الاجتماعي.. إن احترام الوقت وإنجاز المطلوب وجودة الإنجاز وقيم العمل كلها تنتمي للقيمي وترتقي للوطني.
كل هذه القضايا تحتاج لحواملها ورياداتها ومبادروها من المعلم في صفه.. إلى الإداري في دائرته.. وإلى القائد في قطعته.. والمسألة في الأساس هي ثقافة المسؤولية والمحبة وممارستها.. وهنا دور البيت والمدرسة والمسجد والثقافة والأم ورجال الدين وكل من هو قادر على تكريس القيمي والنهوض به.. كل قوى الفعل الاجتماعي والسياسي لها دورها في إنتاج القيمي وممارسته.. إن التنمية وعدالة التوزيع وتكريم المنتجين كلها تنمي القيمي.. كما قلت القيمي يمتد إلى الاقتصادي والإنتاجي والإداري والقانوني وغيره.. كل هذه المعاني تحتاج الإحيائية الجديدة والإرادة الجديدة.
عن النقد وممارسة النقد وعدم جدوى ذلك كيف يجب أن يكون النقد برأيك؟
مشكلاتنا في النقد هي مشكلاتنا في الفكر العربي والثقافة العربية وكلها بين الواقع والمنتظر وبين الأزمة والتفكير بين المعطيات وغياب المنهج وبين الذات.. والموضوع أن انشطار الرؤية بين الواقع والماضي التراثي والحاضر المعاصر وما يقتضيه.. كل هذا فرض نوعاً من التخبّط والتجاذب ومعادلة الداخل والخارج.. وسط كل هذا تغيب شروط تكوين ( عقلية منهجية ذاتية ناقدة) ومستقلة داخل الفكر العربي وبالتالي ينمو الفكر نحو الارتجال والتخبّط المعرفي ويفقد أدوات تحليل الواقع ويعيش المثقف النقدي نوعاً من حالة التعلّق بين الذات والموضوع والتأرجح بين التراث والوافد الثقافي لذلك يكون إطاره المعرفي غير مكتمل الرؤية والعناصر وخاضعاً للكثير من الذاتية ومتطلباتها.. في المنهج ينغرس المثقف النقدي بين مناهج الآخر العربي وبين الواقع وشدّه الاجتماعي.
لم ينشأ (عقل نقدي عربي) بسبب عدم نشوء (كيان نقدي معرفي).. المشكلة الأخرى أن العقل النقدي العربي لم يفصل بين ماهو (علمي) وما هو (إيديولوجي) وغالباً ما يحصل الخلط بين المسألتين..
ما زال النقد عندنا عملاً فردياً وغير مؤسس مدرسياً بمعنى الاتجاهات والبحث.. والسبب الرئيسي هو غياب الدراسات الفلسفية والاجتماعية وهناك غياب مناهج البحث في التطبيق والدراسات الميدانية.. لذلك نعاني من فقر نظري وتفسير مغترب عن واقعه.