من دفتر الوطن

السور والحارس

| حسن م. يوسف

لأنني لست من المعجبين بوضعية السائح الذي «يقلب أوراق البلدان ولا يقرؤها» لم أكتب عن سور الصين العظيم عندما زرت جمهورية الصين الشعبية عام 1999 رغم علمي بأن ذلك السور يرمز للأمة الصينية ويظهر ذكاء أبنائها ويجسد ما بذلوه في بنائه من عرق ودماء، ولم يكن سبب امتناعي عن الكتابة هو قلة المعلومات المتوافرة لدي، ذلك لأنني أمضيت نهاراً كاملاً على السور وأنا أستطلع معالمه وأتنقل في جنباته، وقرأت مئات الصفحات عن ظروف بنائه ومختلف المراحل التي مر بها.
لكنني خلال الحرب المجرمة التي يشنها الغرب على وطننا السوري بالتحالف مع الفاشية الدينية فكرت مراراً بالكتابة عن ذلك السور لأن في قصته عبرة كبيرة لنا نحن السوريين في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا.
بوشر بناء سور الصين العظيم في القرن الثالث قبل الميلاد في عهد أسرة مينغ الملكية على الحدود الشمالية والشمالية الغربية وقد استغرق بناء الجدار الأول تسع سنوات، قتل خلالها نحو عشرة آلاف عامل تم دفنهم في المناطق المجاورة للسور، لكن السور الذي نراه اليوم هو شيء مختلف بحيث يمكن القول إن بناءه قد استغرق أكثر من ألفي سنة.
أثناء زيارتي للسور حصلت على بروشور صادر عن الوكالة الصينية للمحافظة على التراث يقول إن السور هو أطول بناء شيده الإنسان على وجه الأرض إذ يبلغ طوله 6700 كيلومتر تقريباً. لكنني اطلعت قبل كتابة هذه الكلمات على منشور حديث صادر عن الوكالة الصينية نفسها يقدر طول السور بحوالى 21196 كيلومتراً باحتساب الأجزاء المدمرة منه. يتراوح ارتفاع السور بين خمسة وسبعة عشر متراً، أما عرضه فيتراوح بين خمسة وسبعة أمتار، وقد أشيد السور كمشروع متكامل يتكون من الحيطان الدفاعية وأبراج المراقبة والممرات الإستراتيجية وثكنات الجنود وأبراج الإنذار. ويقال إنه بالإمكان رؤيته ورؤية الأهرامات المصرية من القمر بالعين المجردة.
في الأزمنة القديمة كان السور مقسماً إلى تسع مناطق إدارية، لكل منها رئيس تنفيذي مستقل مسؤول عن الشؤون الدفاعية وإصلاح السور، وكان عدد الجنود المرابطين على السور في عهد أسرة مينغ نحو مليون جندي.
لم يكن سور الصين مدرجاً في قائمة عجائب الدنيا السبع القديمة التي لم يبق منها سوى الأهرامات، لكنه أضيف في عام 1987 إلى قائمة التراث العالمي التي حددتها اليونسكو. واعتبر من عجائب الدنيا السبع الجديدة، لأنه يشكل أقوى دليل على مثابرة البشر.
بنى الصينيون الأجزاء الأولى من السور في القرن الثالث ق. م لحماية مملكتهم من هجمات المغول والترك. وليس مصادفة برأيي أن مسار السور يفصل بين المناطق ذات المناخ شبه الرطب والمناطق ذات المناخ الجاف أي إنه يشكل مانعاً بين المناطق الزراعية والمناطق البدوية في الصين.
خلال المئة سنة الأولى من عمر السور نجح الأعداء في غزو الصين ثلاث مرات! وفي المرات الثلاث لم يتمكنوا من هدم السور أو تسلقه بل كانوا يدخلون من أبوابه المنيعة التي كان الحارس يفتحها لهم من الداخل بعد أن يتم رشوته بالمال! وهكذا فقد رسَّخ الصينيون كل إمكانياتهم لبناء السور لكنه لم ينفعهم لأنهم غفلوا عن بناء الإنسان.
منذ استقلال سورية وحتى الآن أخفق الغرب الاستعماري أكثر من مرة في كسر مناعتنا الوطنية، لكنهم نجحوا مؤخراً في نقل المعركة إلى داخلنا لأنهم تمكنوا من رشوة بعض السياسيين السوريين الذين طالما كانوا عظاماً في رقاب حكوماتنا المتعاقبة. نعم لقد كرر السوريون المعاصرون خطيئة الصينيين القدماء الذين أبدوا مهارة هائلة في بناء السور لكنهم غفلوا عن بناء الحارس!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن