(شباب دائم)
عصام داري :
وداعاً أيها الحب.. أهلاً أيها الأرق!..
وهكذا تعلمنا الأيام والسنوات أن لكل «زمان دولة ورجالاً» وأن ما يمضي من سنوات العمر لن يعود أبد الدهور.
قد تمر سحابة ربيعية عطرة في سمائنا، لكنها ليست سحابة ممطرة، هي أشبه بالوهم منها إلى الحقيقة.
لكننا نعشق الوهم أحياناً، ونغرق في أحلام اليقظة بعد أن جفت ينابيع الأحلام التي رسمناها في زمن الشباب وحيوية مفرطة كانت تشعل براكين حب وهوى، وشلالات خير وعطاء.
والنسائم الربيعية القليلة التي تعبر شتاءنا تذيب بعض الجليد الذي تراكم على قلوبنا، فتنشر نوراً خاطفاً في ظلمة سكنت الروح حتى غابت معالم النفس وصار الإنسان شبه خراب ويباب.
بتنا نعد الأيام التي تمر من حياتنا، ونتوقع عدد الأيام المتبقية لنا في مسيرة الألف ميل التي قطعناها، ونسترجع الذكريات، ونكتشف أننا في الهزيع الأخير لا نملك غير الذكريات، وحفنة فرح شاحب غيرته السنوات، وقصص حب كانت ذات يوم، أجمل حكايات الكون، فصرنا نشكك اليوم فيما إذا عشناها فعلاً أم كانت مجرد أضغاث حلم عتيق تصورنا وجوده واخترعناه للهروب من الملل والفشل والفراغ.
نمعن النظر ملياً، نتأكد أنها كانت حقيقية، لكن.. ما الفائدة من ذكرى رحلت إلى غير رجعة، والترحم على قوارير عطر رائعة الجمال من دون استطاعتنا حتى تذكر شذاها وأريجها؟!.
هذا الأرق الذي صار يحتل كل ثانية من أيامنا الراهنة، هو البديل من حب ذبلت أزاهيره، وتساقطت أوراقه منذ خريف العمر الذي مررنا به، وها نحن في شتاء كثير الزمهرير، صاعق الرعود، عاصف الأنواء، نبحث فيه عن «كمشة دفا» نركن إليها في مواسم الثلوج والوجع والأحلام المبددة.
يقولون: لكل مرحلة عمرية حلاوتها!! ربما كان ذلك صحيحاً، وربما كان من اخترع هذه الحكمة العرجاء يعطينا تعويضاً متأخراً عن فرح رحل، وسعادة مفقودة، وسنوات كنا فيها نعلم الناس الحكم وأبجدية الحياة.
إنها حكمة المستسلمين لسطوة السنوات، والمقتنعين أن العمر الذي أمضيناه كان رائعاً.. صاخباً.. مشرقاً.. وآن لنا أن نعيش سنوات من الروعة الهادئة من دون صخب، وبلا إشراق يشع نوراً مبهراً يتعب العيون، فهل هذه هي طعمة حلاوة عمر الشتاء والصقيع؟ وهل علينا أن ندفن أنفسنا في الحياة قبل قدوم ملاك الموت لأننا اكتفينا من المتع الشابة، وصار علينا تقبل «متع الكهولة والشيخوخة»؟!.
صحيح أننا تعبنا من المشوار، لكننا لم نتعب من الحياة بعد، وعندما نبلغ «سن التعب» فعلينا اختيار الموت الرحيم، لنريح ونرتاح، وهذا الكلام ليس تعبيراً عن يأس وإحباط وموجة كآبة عاتية تضرب نفسي، وإنما توصيف لحال من وصل إلى حدود اليأس ويريد الخروج منها بسلام.
نتوق إلى حياة فيها صخب الشباب وحيويتهم، وفرح الدنيا وحرارة الحب وأيام المرح، صحيح أن لكل سن حلاوته وجماله، لكننا طماعون عندما نقرر تجديد الشباب في سن الكهولة، وليس بمقدور أحد أن يصادر أحلامنا، أو أن يلغم دروبنا الوردية المزروعة بالورود والألوان والألحان، هي دروبنا في أي مرحلة من مراحل عمرنا.
لن نودع الحب.. وليس للأرق مكان عندنا!.