الغيرة شعور نبيل لـ«سيسا»…الحب أولوية تغيظنا.. والغيرة جوابه
اعداد: مها محفوض محمد :
ثمة من قال لحبيبته: يوم يتوقف شعوري بالغيرة عليك فذلك يعني أن حبنا انتهى.
ألا يعني هذا أن لا حب حقيقياً من دون غيرة وأنها واحدة من أهم مشاعر الحرب بل قد تكون أجمل ما في الحب.
إن اقتران الحب بالغيرة قديم منذ الأزل وليس فقط من زمن جميل بثينة الذي قال:
إذا رأيت مصعب بن الزبير يختال في البلاط
غرت على بثينة وبينهما ألف ميل
فقد روت لنا الأساطير قصصاً عن الحب والغيرة لعل أشهرها ما جاء في الأسطورة الإغريقية عن ميديا التي أحبت شخصاً من أعداء وطنها يدعى جازون هربت معه وتزوجته وأنجبت منه ولدين وفي أحد الأيام علمت ميديا أن زوجها أحب امرأة أخرى ويريد الزواج منها فجن جنونها وقررت الانتقام من جازون الذي غدر بها بعد أن تخلت عن وطنها لأجله لكن انتقامها كان مرعباً فقد ذبحت ولديها لتقهر حبيبها وتحرق قلبه، وهذا نموذج قاس تقدمه الأسطورة عن غيرة يتحول فيها الغضب إلى سعار تراجيدي.
كثير من الفلاسفة والأدباء تناولوا هذا الموضوع بل منهم من عاش قصص حب وعانى من الغيرة أمثال مارسيل بروست وستاندال حيث عاش بروست الغيرة ودرسها بطريقة لا مثيل لها في الأدب العالمي فهو الروائي الفرنسي الذي كتب سلسلة روايات «البحث عن الزمن الضائع» التي صدرت في سبعة مجلدات وجعلته أحد أكبر الروائيين في القرن العشرين استمدت رواياته في شخصياتها وأحداثها من تجاربه الشخصية وذكرياته فيلمس القارئ معاناته من الغيرة وعذابه لتصبح فكرة الحب عنده نوعاً من الوهم والحياة ليست سوى زمن مفقود وأوهام زائلة ويقود الحب بروست أخيراً إلى عزلة جعلته يكرس نفسه للأعمال الفنية.
يقول بروست: ليس هناك غيرة متماثلة المعالم وكل عاطفة غيرة تختلف باختلاف الشخص ذاته بحسب مزاجه وتفكيره والمؤثرات عليه».
لقد درس بروست الغيرة بأشكالها وعناصرها بطريقة فريدة حازت اهتمام الدارسين والنقاد لتصدر دراسات كثيرة عن موضوع الغيرة عند بروست، ففي التاسع من حزيران الحالي سيقام عرض لعمل جماعي مشترك سمي «مئة عام من الغيرة البروستية» وتحت عنوان: ميتافيزيقيا الغيرة عند بروست قدمت مقتطفات من أقواله منها: «كم نتألم عندما نفتقد ما كان لنا ونبكي عندما لا نعود نرى من نحب بذاك الحماس من الود والانجذاب بل تحول للآخر ولم تعد المبادرات الغرامية كما كانت، فنسيان كلمة من الكلمات التي اعتدنا تبادلها يعيد إلي الضجر والحزن والحنين فأتحول إلى شخص شارد الفكر يتجرع ألماً مبرحاً».
ذلك أن الحب المتبادل لم ينعم به بروست حيث أحب عدداً من النساء منهن دوبينا رادكي المعروفة بجمالها لكنها لم تبال بحبه ثم لورهايمان التي بقي معها ثلاث سنوات وكان يلتقيها كل يوم في قصرها الصغير ويغار عليها جداً فتركت تجاربه العاطفية المختلفة آثاراً نفسية عليه أتاحت له فهم أعماق النفس البشرية وتحليلها فيكتشف أن الحب يعذبنا إلى درجة تجعلنا نعري الإنسان الضائع في العلاقات الخادعة كما يقول بروست.
وحول هذا الموضوع صدر مؤخراً كتاب جديد عنوانه: «الغيرة شعور نبيل» للكاتبة الفرنسية جوليا سيسا المختصة بأنثروبولوجيا اليونان القديمة.
تقول الكاتبة: للذين يجدون في الغيرة سمعة سيئة وأن من يغار هو شخص مرتاب مستأثر كتبت هذا الكتاب ومن أجل إسقاط الطريقة الشائعة في الحديث عن الغيرة فليس من العيب أن نغار على من نحب وليس الأمر مخجلاً فنحن نخطئ عندما نفكر هكذا ذلك أن الغيرة أمر مختلف عن الشك أو عن التملك وأنا أبرهن أن لها تعريف الحب ذاته فهي رجاء للمعاملة بالمثل أي تبادل العواطف ضمن علاقة وحيدة بحيث يكون شغفي هو شغف الآخر أي وجود مشروع ضمان حب الآخر بشكل دائم لكن رغبة الآخر قد تفوتني بعدم التوضيح أو التحديد ما يولد الشعور بالغيرة والتي ضمن هذا المعنى هي شعور نبيل لأن الإحساس يأتي من أن الحب هو لشخص وليس لشيء ولو كان الآخر شيئاً للتملك فمن السهل جداً أن تمتلكه وتتدبر أمره بأن تغلق عليه بالمفتاح لكن بالطبع ليس هذا ما يعنيه الحب.
وتتابع سيسا: إن حالات الشك والارتباك هي واقع مؤلم وقد اتخذ هذا الوجع شكل غضب معلن عند القدامى بينما أرسطو اعتبر المؤثرات موضع شرف في الحياة الإنسانية فلم ير في الغضب شيئاً مخجلاً إذ نتلقى إهانة لا نستحقها وفيها قلة احترام لكنها تدل على إنكار الجميل من الطرف الآخر والانتقام في هذه الحالة هو رد اعتبار لكرامة جرحت، وبذلك يرجع أرسطو بعض القيم إلى الغضب.
إذاً فكيف لهذه الغيرة الشرعية أن تنتهي بالخجل وقلة الاعتبار؟ تجيب جوليا سيسا على هذا السؤال بالقول: إنها قصة طويلة وقد كان أول منعطف لها عند الرواقيين «نسبة إلى الرواق الذي كان يجتمع فيه أتباع فلسفة زينون التي تقول إن كل شيء في الطبيعة إنما يقع بالعقل الكلي ويقبل مفاعيل القدر طوعاً» الذين يرون أن العواطف يجب تفريقها أو اقتلاعها بما فيها من الغضب العشقي الذي هو في الواقع على طريقة القدماء ليس سوى الغيرة بما فيها من حب وعلى هذا فإن شعراء التروبادور «شعراء جوالون اشتهروا في جنوبي فرنسا وشمال إيطاليا بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر» كانوا ينظمون الشعر الغنائي في السيدات النبيلات تعبيراً عن الإعجاب وهؤلاء هم أكثر من استشعر الوجل في الحب والخوف على حبيب قد نفتقده وأنه لا حب من دون غيرة.
المنعطف الثاني بحسب سيسا: تم الأخذ به في القرن السابع عشر مع نظرية العواطف للفيلسوف البريطاني توماس هوبز الذي- بعكس أرسطو- لم يفكر بالغضب كرد فعل على إهانة في غير محلها إنما اعتبرها كرد فعل ميكانيكي على عائق يعترض طريقنا فنحن نستاء من العراقيل وليس من جرح شعورنا ولأن الحب هو أولوية نحتاجها بقوة وخشيتنا ألا نلقى هذا الحب تغيظنا فتأتي الغيرة جواباً على هذا الغيظ. فكل مرة يصطدم أحدنا بتقلب رغبات الآخر تجتاح الغيرة قلبه كرصاص منصهر في الصدر ويزداد قلبه هياماً كما يقول ستاندال الذي عاش قصص حب عنيفة مع نساء جميلات ليكتب فيما بعد: «إن الحب جوهر الكتابة» وبعد علاقة منيت بالفشل مع ماتيلدا ديمبوسكي نشر كتابه «الحب» الذي يصنف فيه الحب إلى أربعة أنواع: حب التجربة وحب الكبرياء والحب المتعلق بالغريزة ثم الحب المرتبط بالمشاعر وهو الحب الأمثل.
وتختم سيسا بالقول: أن تكون محباً فأنت غيور باستمرار.