من دفتر الوطن

الاعتزال!

| عصام داري 

متى أعتزل الكتابة؟.. ومتى أتقاعد من مهنة الحرف والكلمة والنحت في الأبجدية؟
أعترف بأنني بعد أكثر من أربعة عقود من مصاحبة الكتابة أنني تعبت وأفكر كثيراً بالتوقف، كي أرتاح من مشقة المشوار، ومن يقطع المسافات الطويلة يصبه التعب والدوار، وربما بعض الملل.
لا أريد أن أكرر نفسي، أو أن يصيبني (زهايمر الكتابة!)، أو أن تخونني الأبجدية وتتخلى عني الحروف والكلمات، فلو حدث ذلك فسأطلب من نفسي الموافقة على الموت الرحيم لمهنة الكتابة التي سببت لي الكثير من المشاكل (الكبرى والصغرى على حد سواء!!) وبعضها استوجب التحقيق والمساءلة، والعقوبة أيضاً، ومن يختر «مهنة المتاعب» يعرف منذ البداية أنه مقدم على مغامرة مستمرة، وتعب على مدار الساعة.
لم يعد في العمر ما يحتمل مساءلة جديدة، أو لوماً، وحتى «نتفة» عتب!، فحتى العتب أحياناً يؤلم، وخاصة إذا جاء من صديق أو شخص كنت تظن أن عقله منفتح، وإذا به يخيب ظنك في أول تجربة، ويفسر كلامك على غير ما هو عليه، وهنا المصيبة الكبرى!!.
في مكتب رئيس تحرير (الوطن) لوحة جميلة ورثها عن والده الراحل الصديق الكبير ياسر عبد ربه، هي عبارة عن حكمة يعرفها العاملون في الإعلام تقول: «نصف ما نريد كتابته لا نستطيع نشره، ونصف الذي ننشره لا يباع، ونصف الذي يباع لا يقرأ، ونصف الذي يقرأ لا يفهم، ونصف الذي يفهم يُساء فهمه»! هذه هي مصيبتنا، نقطة أول السطر.
المهم أن فكرة الاعتزال تراودنا بين فترة وأخرى، فالأخطاء غير المقصودة تجعلنا كحد أدنى عرضة لما لا تحمد عقباه! لكن هل يمكننا التنفيذ؟. وكيف يمكن اعتزال عشيقة رافقتنا في معظم سنوات حياتنا؟. وهل يستطيع من اعتاد المتاعب والمشاغبة أن يغير أسلوب حياته ويتحول من نمر إلى حمل وديع؟. وهل يوقع مع هذه العشيقة معاهدة عدم اعتداء، وفض اشتباك؟!.
وإذا كانت ماجدة الرومي قد قررت من طرف واحد «اعتزال الغرام» فهل يستطيع رفيق القلم والأوراق والأحبار والكلمة أن يعتزل هذه المهنة الحلوة والمرة، الرقيقة والقاسية؟
في الفن والمهن الفكرية كالأدب والصحافة والإعلام لا مجال للاعتزال، ولا مشرع يفتي بالطلاق بين صناع الفنون بمختلف ألوانها وأشكالها، وهذه الفنون.
فنانون كبار على مستوى العالم ماتوا وهم في ذروة العطاء: أنطوني كوين مثلاً، وفنانون مازالوا يعطون مع أن أعمارهم تجاوزت ثلاثة أرباع القرن، ولدينا في سورية فنان الشعب رفيق سبيعي ودريد لحام، ولا ننسى أن هناك من توفي وهو يمارس عمله الفني كنصري شمس الدين الذي توفي وهو يغني على المسرح في دمشق.
كل هذا الكلام أردت منه القول إن التقاعد والاعتزال لأصحاب المهن الفكرية والفنية هو أسلوب لقتل الإبداع، أو للحد منه وعرقلته على أقل تقدير.
صحيح أننا تعبنا من مهنة المتاعب، وأننا أحياناً نحاول الهروب من هذه الحبيبة المشاكسة، لكننا لا نستطيع هجرها، ولو وضعوا بيننا وبينها عقبات وعراقيل و«قوانين» تضعنا خارج لعبة الإعلام والكتابة.
يبدو أنني لن أعتزل، وسأظل أكتب في الحب والحياة والشعر والنثر والموسيقا إلى آخر رمق في حياتي، وربما أنا أتحدث بلسان معظم من ارتضى الاقتران بـ«صاحبة الجلالة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن