قضايا وآراء

البندقية إذ تنقل من الكتف الشمالي إلى الجنوبي

عبد المنعم علي عيسى : 

 

كيفما سارت عليه الأحداث في أنقرة ما بعد 7/6/2015، وسواء ذهبت باتجاه حكومة ائتلافية بزعامة حزب العدالة والتنمية أو دونه، أم اتجهت نحو انتخابات مبكرة خلال تسعين يوماً من إعلان نتائج تلك الانتخابات، فإن المؤكد هو أن علاقة أنقرة بالمجموعات المسلحة الداعمة لها على الأرض السورية سوف تدخل عتبة جديدة ذات سقف أدنى بالتأكيد مما كانت عليه العتبة السابقة تناغماً مع حالة «قصور ذات اليد» الأردوغانية التي ستكون السمة الفارقة للمرحلة المقبلة، وبمعنى آخر فإنه من المرجح أن تشهد جبهة الشمال السوري استراحة ما بين الشوطين بدأت بوادرها بالتكشف منذ الآن، ولأن قرار التصعيد لا يزال قائماً فنحن سنشهد نقلاً للبندقية من الكتف الشمالي إلى الكتف الجنوبي، وفي التداعيات العاجلة فإن تنظيم جبهة النصرة سيكون الأكثر تضرراً من الحال التركية الجديدة على اعتبار أن شريانها الأبهر مرتبط بشكل مباشر مع الأذين- وكذلك البطين- الأيمن في القلب التركي.
دفع الهدوء الافتراضي في جبهة الشمال الناجم عن كبح الجماح التركي بقرار شعبي هذه المرة، إلى الواجهة بقضية أخرى لربما هي أخطر من سابقتها، فقد شهدت الأيام القليلة الماضية تمدداً كردياً يحظى بدعم لوجستي أميركي حاسم سرعان ما تبدت نتائجه على الأرض عبر السيطرة على مدينة تل أبيض 13/6/2015 وبعدها على مدينة سلوك 14/6/2015.
لكي نفهم الحدث السابق لا بد لنا من العودة إلى السياق الذي شهدته الأحداث التي اشتعلت أواخر الشهر الماضي وبداية الشهر الحالي في مدينة الحسكة والتي كانت سمتها البارزة هي «تقاعس» وحدات الحماية الكردية في الدفاع عن المدينة، كانت الشروط التي وضعتها تلك الوحدات لكي تفعل (لكي تقوم بالدفاع عن المدينة) فاضحة وتشي على أقل تقدير بسوء النوايا ففي 1/6/2015 صرح عبد الكريم صورخان رئيس هيئة الدفاع التابعة للإدارة الذاتية فقال «نقف على الحياد في الاشتباكات الحاصلة بين تنظيم داعش والنظام السوري في الحسكة».
كانت تلك الاشتباكات ورقة ضغط داعشية على الفصائل الكردية المسلحة التي كانت تحث خطاها نحو تل أبيض لإجبارها على الرجوع للدفاع عن المدينة الأمر الذي لم تقم به تلك الفصائل بإيماءة أميركية، فلطالما كانت عملية «رسم التخوم» هي أثمن بكثير من الدفاع عن مدينة الحسكة!! كانت تلك الفصائل تريد للمدينة أن تسقط بيد داعش لكي تقوم هي باستعادتها من جديد بدعم جوي أميركي حاسم يكفل نجاح تلك العملية لتنفرد بسيطرة مطلقة عليها هذه المرة.
الأحداث الجارية في الشمال السوري تشير إلى دعم أميركي واضح للسير في إقامة كيان سياسي كردي وأقله في هذه المرحلة ربط تل أبيض بعين العرب (كوباني) وربط الاثنين بالقامشلي.
يرى الأكراد اليوم أن المتغير التركي هو فرصة أثمن من أن تضيع لتحقيق تمدد جغرافي في حين أن الأميركان يبدو أنهم قرؤوا فوز حزب الشعوب الديمقراطية في تركيا بنسبة 13% (80 مقعداً) على أنه مؤشر على نضوج سياسي داخل النسيج الاجتماعي والسياسي للأكراد ومن الممكن الركون إليه للذهاب في المسار الذي قررت واشنطن السير فيه.
ما يزيد الصورة السابقة وضوحاً هو أن عملية السيطرة على تل أبيض كان قد رافقها حركة نزوح للعرب وللتركمان، الأمر الذي يعتبر دليلاً قاطعاً على السلوك الميداني للفصائل الكردية المسلحة على الأرض، وما كان لافتاً هو التصريحات التي انطلقت من المسؤولين في رئاسة إقليم كردستان العراق ومفادها أنه «لم يتم إخبار رئاسة الإقليم بالعملية المراد القيام بها في تل أبيض» وهي تحمل ضمناً اعترافاً صريحاً بأن التنسيق مع رئاسة الإقليم هي أولوية لا تسبقها أي أولوية أخرى، كما تحمل ضمناً اعترافاً آخر بأن الأولوية الآن هي للتنسيق مع الأميركان الساعين باتجاه رسم التخوم لكيان كردي مفترض بعيداً عن الجعجعة التركية الحاصلة حالياً.
يشهد الجنوب السوري حالياً اندفاعة غير مسبوقة للتسلح النوعي والكمي ولاستقطاب المجندين أيضاً مع ارتفاع في وتيرة الدعم المالي واللوجستي والاستخباراتي للجماعات المنضوية تحت راية غرفة عمليات موك التي تدار من الأردن، وما يسعى إليه التحالف التركي الخليجي حالياً هو الوصول إلى تحالف ما بين موك وبين جبهة النصرة (تحالف سياسي) في حين أن التعاون الميداني قائم بين الاثنين بقوة، هذا الأمر من شأنه أن يؤدي إلى تحييد داعش في الجنوب الضعيفة الوجود أصلاً فيه، أو إلى قيام صراع مذهبي يمكن أن يحمل بين طياته تدخلاً عسكرياً خارجياً (إسرائيلياً أو أردنياً تحديداً) وإن كانت تل أبيب قد سارعت على الفور (11/6/2015) إلى نفي وجود نوايا لديها للتدخل في الجنوب السوري في حين أننا سمعنا ربما للمرة الأولى بتلك اللهجة لرئيس هيئة أركان الجيش الأردني الفريق مشعل الزين (10/6/2015): «إن القوات المسلحة ستكون بالمرصاد للخوارج والإرهابيين وهي «قد انتقلت من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم» سياسياً، سرعان ما أمكن تلمس تداعيات المتغير التركي الحاصل مؤخراً على المعارضة السورية في اجتماعها الأخير المنعقد في القاهرة يومي 9 + 10 حزيران الجاري فقد فضحت الوثيقة التي خرج بها المؤتمر المرامي التي عقد لأجلها (والصبّ دوماً تفضحه عيونه)، لم تكن السقوف العالية التي جاءت بها تلك الوثيقة تندرج تحت إطار سلوك سياسي يعمد إليه المتفاوضون قبيل الدخول في أي مفاوضات، ولو كان الأمر كذلك لاحتوت تلك الوثيقة على آليات مقترحة لتسهيل عملية المفاوضات مع الحكومة السورية، وإنما تشير (السقوف العالية) إلى صيرورة أخرى يلجأ إليها أي مكون (وأي كائن) عندما يستحكم به الإحساس بخطر داهم أو بقرب انحساره، ولربما يصبح هنا تعريف ذلك الاجتماع على أنه عملية استباقية لمواجهة المتغيرات الإقليمية الخطيرة والمؤثرة بشكل مباشر في المعارضة السورية (المتغير السعودي ما بعد عاصفة الحزم) 25/3/2015 (والمتغير التركي ما بعد 7/6/2015) الأمر الذي استوجب التمترس كحالة دفاعية في مواجهة حالة (عري) إقليمي بات يهدد الجسد المعارض بنقص في التروية بدت آثاره بالظهور على الأطراف.
ظهر الدور السياسي المصري في اجتماع القاهرة الأخير كما لو أنه الشبح (الموجود فقط في الأذهان ولا وجود له على الأرض)، فقد عمدت القاهرة على التقاط اللحظة السياسية المتولدة عن تعثر اجتماع المعارضة السورية المزمع في الرياض لتمارس دوراً هو أشبه ما يكون بالعزف على لحن شجي قديم يستعيد ذكريات الدور الإقليمي المتوهج الذي كانت تحظى به القاهرة سابقاً في مقابل دور هامشي بات ملازماً اليوم للسياسة المصرية حتى في أروقة الجامعة العربية وليس من الصعب علينا تلمس إدراك سياسي مصري يرى أن التحالف القائم اليوم ضد اليمن بزعامة السعودية سيشكل في المرحلة اللاحقة الأرضية التي ستبنى عليها هيكلية الجامعة العربية المقبلة في ظل عجز مصري بالغ الخطورة.
وسط هذا التخبط المصري الناجم عن حالة هروب في الإجابة عن سؤال ملح ومحوري (ولربما التساؤل غير موجود أصلاً) يمكن صياغته على النحو التالي: ما المتغير بين مصر (1952- 1970) أو حتى مصر (1981- 2011) وما بين مصر اليوم؟!
وسط هذا التخبط سعت الدبلوماسية المصرية خلال اجتماع المعارضة السورية الأخير إلى إيجاد ركيزة سياسية حليفة لها داخل تلك المعارضة تكون كوادرها ذوي «حضور عالمي» في مؤشر خطير ينبئ بقناعة سياسية تقوم على إمكان سحب كتلة مئة المليون نسمة عبر خيوط «القنب» التي تسعى القاهرة للاستحصال عليها.
لم يسبق أن وهن الدور المصري إلى هذا الحد منذ أيام الخديوي إسماعيل (1863- 1879م).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن