ثقافة وفن

المثقف العربي والمستقبل

| حسين مهدي أبو الوفا

للثقافة والمثقفين مكانة خاصة في المجتمعات الفقيرة النامية، والجهل يرسم صورة للعلم والمتعلمين، ويعطي المثقف مركزاً مميزاً ويتوقع منه المستحيل- وفي تصور هذه المجتمعات يختلط المثقف بالمتعلم، ويصبح كل من حصل على قسط مع العلم، في نظرها مثقفاً. الواقع أن المثقف ليس من أحسن القراءة والكتابة أو من حصل على شهادة علمية (هناك أميون بين حملة شهادة الدكتوراه)، بل إن ما يميز المثقف، في أي مجتمع، صفتان أساسيتان:
الوعي الاجتماعي الذي يمكن الفرد من رؤية المجتمع وقضاياه من زاوية شاملة، ومن تحليل هذه القضايا على مستوى نظري متماسك والدور الاجتماعي الذي يمكن وعيه الاجتماعي من أن يلعبه، إضافة إلى القدرات الخاصة التي يضفيها عليه اختصاصه المهني أو كفاياته الفكرية. وعليه فمجرد العلم ولو كان جامعياً، لا يضفي على الفرد صفة المثقف بصورة آلية، فالعلم ما هو إلا اكتساب موضوعي، ولا يشكل ثقافة في حد ذاته، إنه يصبح ثقافة بالمعنى الشامل إذ توافر لدى المتعلم الوعي الاجتماعي، ذلك العامل الذاتي الذي من خلاله فقط يصبح الفرد مثقفاً، ولو لم يعرف القراءة والكتابة، ومن دونه يبقى أمياً، وإن كان طبيباً أو أستاذاً جامعياً.
تتألف الفئة الأولى من المثقفين الملتزمين، أي أولئك الذين يتطابق عندهم الفكر والممارسة. كيف لا يمكن التفريق بين حياتهم الخاصة وحياتهم العامة؟
هؤلاء يقدمون حياتهم إلى قضية أو إلى هدف اجتماعي فيصبح مصيرهم ومصير قضيتهم مصيراً واحداً. إن هذا أعلى أنواع الالتزام. فالوعي هنا ممارسة كاملة والممارسة هنا وعي كامل.. وتشكل هذه الفئة من المثقفين، إلا أنها الطليعة المسؤولة عن التغيرات الأساسية التي تحدث في المجتمع وتشكل أداة انتقاله من مستوى إلى مستوى أعلى. من الناحية الاجتماعية، فإن الذين ينتمون إلى هذه الفئة مثقفون ينبثقون من خلفيات وطبقات اجتماعية مختلفة، ولا يجمعهم اختصاص أو مهنة معينة، بل وعي واحد وممارسة واحدة، فتجد الطبيب إلى جانب الطالب والأستاذ إلى جانب العامل والفلاح.
وتتألف الفئة الثانية من المثقفين من (أهل القلم) من الأدباء والكتّاب والمفكرين العاملين اجتماعياً بالكلمة لا بالممارسة المباشرة. ويعتمد دور هذه الفئة في عملية التغيير الاجتماعي على تأثيرها في الرأي العام وقدرتها على تغيير الوعي الاجتماعي ودفعه نحو آفاق جديدة. وهذا التأثير لا يظهر إلا في المدى الطويل، إذ إن «العمل الفكري» لا يشكل عملاً إلا عندما يصبح قوة مادية تفعل في المجتمع وتغيره مادياً، وهذا يأخذ وقتاً طويلاً. ومن الواضح أن التزام هذه الفئة من المثقفين هو التزام معنوي، فممارستهم ممارسة فكرية، ولا تفرض عليهم نمط حياة معيناً. والفئة الثالثة تتألف من العاملين في حقل (التثقيف) و«التعليم» من الأساتذة والمعلمين، وتأثيرهم في العمل الاجتماعي هو نتيجة عملية التعليم المباشر التي يمارسونها، وهو كتأثير الفئة الثانية، طويل المدى يرتبط بحياة الجيل الصاعد. والتزام هذه الفئة من الأساتذة والمعلمين، هو التزم فكري معنوي، فهم كالكتاب والأدباء.. يمارسون العمل الاجتماعي من دون الانخراط المباشر صراعات المجتمع وانهماكاته وعلى الرغم من ذلك، فإن الأساتذة والمعلمين يلعبون دوراً مهماً في تكون القوى الطليعية وتحريكها.
أما الفئة الرابعة فتتألف من «المهنيين» أي من الأخصائيين العاملين في الحقول العلمية الصناعية والإدارية المختلفة، وهذه الفئة من المثقفين تشكل (في كل المجتمعات) الفئة الأكثر بعداً عن الوعي الأيديولوجي. وتأثيرها في المجتمع ينبع من ممارستها المهنية ونتائج عملها في حقول اختصاصها. والتزام هذه الفئة التزام مهني محض، ولا يتجاوزه إلا في حالات استثنائية، وتأثير هذه الفئة في التغيير الاجتماعي على المدى الطويل جذري وعميق، ذلك لأن التغيير المنبثق من العلم والتكنولوجيا يؤدي إلى تحول جذري في بنيان المجتمع المادي وفي علاقاته الاجتماعية، ولعل الفئتين الأكثر تأثيراً في حياة المجتمع هما الفئتان الأكثر تناقضاً:
الفئة الأولى: المتميزة بالتزامها الأيديولوجي وممارستها الثقافية والفئة الرابعة المتميزة ببعدها الأيديولوجي وعن الممارسة الثقافية وبالتزامها المهني.
في مطلع هذا القرن، كان المثقفون في مجتمعنا نخبة صغيرة واضحة المعالم والأهداف لا يتجاوز عددها الواحد بالمئة من مجموع السكان. وأصبحت هذه النخبة، اليوم بفضل انتشار الثقافة والتعليم، فئة واسعة تعد بالآلاف وعشرات الآلاف. ولكن ارتفاع عدد المثقفين في المجتمع لم يفد كثيراً في دورهم الاجتماعي، وإن أدى إلى تغير تركيبهم الاجتماعي وتطلعاتهم الثقافية والفكرية وهم اليوم ينتمون، على الغالب إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة بعدما كان معظمهم ينحدرون من العائلات الكبيرة في المدن من فئات مختلفة من المجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن