ثقافة وفن

جبل صافون الأوغاريتي يخاطب العالم بأبجدية الحجر … نزار بدر لـ «الوطن»: قصة عشق أبدي بدايته الأرض السورية ونهايته ضمير العالم

| صبا العلي

ليس جبل صافون اسم الجبل الأقرع الأوغاريتي فقط منذ عهد الفينيق، إنه لقب أطلقه الفنان النحات نزار علي بدر على نفسه بعد أن تمثل صفات الجبل وتاريخ أجداده الأوغاريتيين بما حملوه من رسائل إنسانية فأعاد إلى حجارة الشاطئ النبض والحياة، وحمّلها همومه وأحلامه وتشكيلات خاطب بها العالم بأسره بمأساة الأرض السورية، فكانت ولادة أكثر من 25000 لوحة منذ بداية الحرب عكست آلامها وكل ما سببه الإرهاب من دمار وخراب وتهجير وقتل.
من الصعب أن تلمح أصابع جبل صافون وهو يقوم برصف حجارته فتراه منهمكاً في إنشاء لوحاته التعبيرية والرمزية في تصاوير فنية راقية، شخوصُها المظلومون والأمهات الثكالى والأطفال والفقراء وعامة الناس.

يقول نزار لصحيفة «الوطن»: (ما من حجر وجد على سطح الأرض إلا وله عمل ومكان ورونق ورمز، هو يفتش عني ويناديني على رمال الشاطئ ويدعوني إلى مكانه في لوحاتي تلقائياً بعد أن فتّتته أمواج المد الشاطئي لأُعيد تشكيله وبنيانه معبراً كما الجبل الراسخ خلفه عن شموخ كل سوري على هذه الأرض ومعاناته، ذلك هو مكاني المقدس أستسلم لحضنه الدافئ وأمانه الكبير أحجُّ إليه بين فينةٍ وأخرى أجمع تلك الحصى وأُعيد رصفها فتلك هي صلاتي).
أبجدية أوغاريت أعظم حضارات العالم اشتقت منها كل الأبجديات وهي المؤلَّفة من ثلاثين حرفاً احتاجت إلى علماء التاريخ لفك رموزها، بينما اشتق جبل صافون منها أبجديته الجديدة فأنطق حجارتها الصامتة من دون الحاجة إلى عالِمٍ أو مترجم لقراءتها، فلوحاته التعبيرية عبرت الحدود السورية من دون الحاجة إلى جواز سفر، وصوته المليء بالأمل والألم وصل إلى الغرب من دون الحاجة إلى وسائل إعلام مهما كانت غايتها، وتحدث عن آلام المهجرين واللاجئين من دون هوية لاجئ، فعزز مكانة السوري في أرضه ورسخ رسالته الفنية السامية فالفن هو الأكثر فصاحة وحضارة وتأثيراً وخصوصاً عندما يستنبط الخطاب الراقي من صمت الحجر هذا الفن الذي انفرد به الفنان السوري الأصيل نزار علي بدر.
ارتكزت معطيات فن نزار إلى عناصر تاريخية استمدها من تاريخ أجداده الأوغاريتيين فشكل بذلك ثورة فنية منفردة وكأن بركان الأقرع يثور من جديد ويبعث بحممه الصخرية إلى السماء ليرمقها العالم ويتأثر بها والذي أيقظته الأزمة السورية، حيث انكب جبل صافون على رصف الحجارة قبل ست سنوات مع بدء الحرب على سورية.
في منزله البسيط يقيم متحفه الفني الذي يتسع لآلاف القطع النحتية وكلها تمثل وجوهاً تاريخية تعكس عمق الحضارة السورية، فمنها منحوتة الإله بعل وعشتار الأم ومنحوتة لوحة الحياة التي تشكل مزيجاً من التآلف الجسدي لكل أعمار الشخوص، منحوتات كثيرة وهو لا ينتمي إلا لمدرسة الحياة وليس إلى أي مدرسةٍ أكاديمية، ذاك فنه الذي اشترك به مع باقي النحاتين السوريين إنما الفن الذي ميزه رصف الحجارة فهو الوحيد الذي أقبل بنهم على تشكيل لوحاته التعبيرية مثيراً بذلك الفن عالم الغرب.
الصحفية الفرنسية إيدلن شنون صاحبة كتاب سوريتي وموفدة صحيفة اللوموند أقامت في منزله وأنشأت دراسة نقدية عن فنه خلال الأسابيع الماضية حيث التقتها صحيفة «الوطن» وقد أثارها فن نزار واستقدمها من باريس لتقدمه للشعب الفرنسي من خلال عرض مآسي السوريين جراء هذه الحرب الظالمة، وهي الصحفية التي أنشأت برنامجها على القناة الفرنسية الثانية حول التعتيم الإعلامي الذي مارسه الغرب حول الأزمة، وقد أكدت لـ«الوطن» أنها لم تجد مثيلاً لفنه، فهو يمنح الحجارة روحاً وأن ما أدهشها سرعته الهائلة في تشكيل اللوحة حتى إنه يمكن أن يشكلها وهو مغمض العينين.
وخلال حفل تكريمي لرائد الموسيقا الآلية في العالم كارل هانز ستيك هاوزن بعنوان (صور من الشرق) الذي أقيم في سويسرا بتاريخ 9 أيلول 2016 اعتمد على لوحات الفنان العالمي نزار علي بدر والحفل من إخراج ساندرو كانشيللي، فيما أقامت نقابة الفنانين في الدنمارك معرضاً غيابياً لنزار بعد أن رفض الحضور.
أما الكاتبة الكندية مارغريت رنرز صاحبة كتاب حصى الطرقات الذي تحدثت فيه عن رحلة عائلة سورية لاجئة اعتمدت اعتماداً كلياً على لوحاته وتشكيلاته التي في مجملها تصور آلام اللجوء والهجرة وكل ما خلفته الحرب السورية والإرهاب الظالم، فيما تحدث البروفيسور الإيطالي أليساندرو شيسا عن نزار وعبقريته التي أبدع بها صوراً ولوحات نقلت حقيقة الحرب السورية من دون تدخل وسائل الإعلام، والكثير من أغلفة الكتب والملصقات في اليونان وإسبانيا وفرنسا استخدمت تشكيلات نزار لكونه الوحيد في العالم الذي ابتكر ذاك الفن.
ويؤكد جبل صافون أن شيئاً ما في تكوينه الجيني يدفعه للذهاب إلى الشاطئ لجمع حصاه كمرحلة أولى تسبق بدء العمل لتأتي المرحلة الثانية وهي إعادة تكوين وتشكيل الحجر، مؤكداً أنها رسالة أجداده الأوغاريتيين التي حملها كأمانة في عنقه ليعيد انبثاق التاريخ ويعمل على تغيير الحاضر المؤلم، مشيراً إلى أن سرعة أنامله في العمل تدفعها قوة خفية محركة من الداخل هي قوة الحب والجمال والعطاء والمجد وكأنه يعيد ترسيخ رسالة الإله بعل التي تقول: حطم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع الحب والسلام في كبد الأرض فالورود المزروعة أمام أجساد الفقراء وخلفهم والشمس المشرقة في سمائهم في معظم اللوحات ورؤوسهم المطأطأة وأجسادهم المنحنية تشكيلات تخاطب الضمير الإنساني لتعكس هموم الفقراء، هي صرخات خرجت من رحم الأرض السورية حجارة صرخت بقوة فبات كل حوارها مؤثراً، صيحات المحتاجين الهاربين، إنها صرخة ضد القتل والقهر، صرخة الأطفال السوريين وآلام الأسر السورية من حرب الإرهاب الهمجية، وقد أوصل أصواتهم فنان مميز أثبت للعالم أن عزم وتصميم الإنسان السوري هو الأعلى، هكذا قدمت وسائل الإعلام الغربية نزار علي بدر الذي أوصل ألم كل السوريين إلى العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن