ثقافة وفن

غاب فاروق شوشة في وقت باتت الأمة في أمسّ الحاجة إلى أمثاله … مثال في الانتماء إلى الأمة والإيمان برسالتها الأصيلة وعطاء لم يتوقف إلى اللحظة الأخيرة

| د. محمود السيد

بمناسبة رحيل الأديب الكبير الشاعر المبدع فاروق شوشة الأمين العام لمجمع اللغة العربية في القاهرة، والأمين العام لاتحاد المجامع العلمية اللغوية في الوطن العربي.

شيئان لو بكت الدماء عليهما
عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما
فقد الشباب وفرقة الأحباب
ما أمرّ فراقك أيها الصديق الغالي! وما أقسى غيابك عن الساحة القومية في وقت باتت فيه أمتك العربية في أمس الحاجة إليك وإلى أمثالك من ذوي العقول النيّرة، وقد ألمت بها الأرزاء، وتكالبت عليها قوى الغطرسة والعدوان وموجات إجرام الإرهاب الفكري والتكفيري الظلامي!
لا أتمكن من وصف جسامة نبأ رحيلك على النفس والعقل والروح، ولا من فداحة الخسارة الكبيرة التي مُنيت بها الثقافة العربية، ووعاؤها اللغة، بفقدان أمينها العام الأديب الكبير المبدع فاروق شوشة. وفي تقديري لم يكن فقيدنا الكبير فرداً واحداً في ثقافته، وإنما تجلّت في شخصيته ثقافة أمةٍ بكاملها، ومنظومة قيم بشموليتها نبلاً ومروءة وشهامة وأريحية وتمسكاً بالمبادىء، وتحلياً بالوفاء.
كنت أستمع إلى برنامجه الإذاعي المتميّز (لغتنا الجميلة) في ثمانينيات القرن الماضي قبل أن ألتقيه، فأحببت البرنامج ومعدّه. وعندما لقيته في الندوة التي أقامتها وزارة الثقافة عام 2005 للشاعر الكبير بدوي الجبل، وكان رحمه اللـه مشاركاً فيها، وكنت آنئذ وزيراً للثقافة، أعجبت أيما إعجاب بشخصه اللطيف والمهذب وبلغته الجميلة والمصقولة والجزلة والرفيعة المستوى وقلتُ له يومها:
هويناكُمُ بالسمع قبل لقاكُمُ
وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه
وحدّثت عنكم كل فضل ورقة
فلما التقينا كنتُمُ فوق وصفه
وتكررت لقاءاتنا في رحاب مجمع اللغة العربية في القاهرة، وتعززّت وشائج الصداقة بيننا. ولقد شرّفني يوم أن قدّمني عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، حيث ألقى كلمة شاملة أسبغ عليَّ فيها سمات كنت آمل أن أكون عند حسن ظنه ومحط أمله، ومما جاء في ختام كلمته: «ائذن لي أيها العالم الجليل في ختام كلمتي أن أقول لك وللجميع: إن هذا المجمع يسعده أن يستقبلك اليوم، وأن يستقبل فيك سورية الحبيبة بكل ما تمثله من زاد قومي وحضاري وثقافي وإبداعي يبقى في وجدان هذه الأمة وفي تاريخها، زخماً متواصلاً، وتوجهاً عروبياً أصيلا، وشقيقة لمصر في مواقف البطولة والكفاح والتصدي، والحفاظ على التراب العربي، صيانة لهذه الأمة الواحدة، ولهذا الوطن الواحد، في معركة البقاء والمصير».
كان رحمه اللـه شخصية استثنائية وموسوعة شعرية متنقلة، موسوعة جمعت بين الشعر القديم والمعاصر، وبين الشعر العمودي والحر، وطالما وظّف رصيده اللغوي والشعري في المناقشات، فيكون لمداخلته الرأي الحاسم والبت في القضايا اللغوية المثارة.
كان شاعراً موهوباً ومبدعاً، ويعدّ من الشعراء الكبار في عالمنا المعاصر، إذ إنه جدَّد في ميدان الشعر مبنىً ومعنىً، وكان صريحاً في إبداء آرائه قولاً وفعلاً، وودوداً في علاقاته الاجتماعية، ووفياً في صداقاته لا يعرف المجاملة على حساب الحقيقة والمصلحة العامة، وطالما نبّه على ممارسات مرتكبة من بعضهم تتنافى والسلوكات المستقيمة.
لقد عرفت من قرب ضخامة الأعباء التي كان يضطلع بها في عمله أميناً عاماً لمجمع اللغة العربية في القاهرة وأميناً عاماً لاتحاد المجامع العلمية اللغوية في الوطن العربي حيث كانت أعمال مؤتمرات المجمع وندواته واجتماعات اتحاد المجامع تلقى على كاهله تخطيطاً وتنفيذاً وصوغاً ومتابعة، يقدم المحاضرين في الجلسات العامة، ويعقّب على محاضراتهم، ويفسح في المجال للأسئلة والتعقيبات بكل لباقة وكياسة وسلوك حضاري راقٍ، وكان يدير مناقشة المصطلحات والقرارات والبحوث التي كانت قد أنجزتها اللجان المختصة في المجمع، ويصوغ تقارير المؤتمرات والاجتماعات ويتابع تنفيذ توصياتها، حرصاً منه على الجودة والإتقان، وإرضاء للفائدة العامة والوجدان.
وكنت أدرك جسامة الأعباء الكبيرة التي كان يقوم بإنجازها وهو في الثمانين من عمره، وأخاف في الوقت نفسه على عواقب هذه الأعباء على صحته، ولقد أرسلت إليه رسالة بعد اختتام أعمال مؤتمر المجمع بالقاهرة عام 2014 وعودتي إلى سورية أقول له فيها:
«لكم أعتز بك صديقاً نبيلاً في غاية النبل، وكبيراً في ذروة الكبرياء، وصادقاً قولاً وعملاً وسلوكاً وأداء، ووفيّاً عزَّ مثيله في الوفاء، في وقت:
غاض الوفاء، وفاض الغدر، وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
وقدوة ومثالاً في انتمائك إلى أمتك وإيمانك برسالتها الأصيلة وقيمها السامية النبيلة، وقد جسَّدت ذلك كله في أعماق وجدانك إخلاصاً في العمل وتفانياً في أدائه، وحرصاً على كل القيم الرفيعة، فكنت الممثل الحق لأمتك انتماءً عميقاً، وعلماً غزيراً، وخلقاً كريماً، ومدافعاً صلباً عن ثوابتها القومية في وقت طالما سيطر فيه الزيف على الحق، فتبدت فيه الأشياء على غير حقيقتها بفعل التضليل الإعلامي والتزييف والتعتيم والتمظهر الخادع، واللمعان الفارغ، والرواغ الماكر.
لايمكنك أن تقدر مبلغ افتخاري بك مفكراً كبيراً مستنيراً وأديباً مجلّياً بارعاً، وقامة شامخة وطنياً وقومياً وعلمياً، ونموذجاً إنسانياً يشع صفاء وطهراً ونقاء، ومحبة وعفة وإباء.
ولكن أخشى عليك وأخاف أيها الصديق الغالي: أخاف على صحتك الغالية من الأعباء الضخمة التي تتحملها، والأرزاء الكبيرة التي تعانيها، والأجواء غير السليمة التي تكابدها، يمدُّك في سبيل التحمل والمكابدة عقل متفتح وهمة عالية، لم أجد ثمة نظيراً لها، وكل دعائي أن يحفظك اللـه ويرعاك برعايته الحانية، وأن يمتعك بالصحة والعافية، ويجعلك على الدوام المثال الحضاري الرائع والبهي والمتألق اللامع والكفي، خلقاً وحضارة وجمالاً وإنسانية وسمواً وجلالاً».
ولكم كان رده سريعاً على هذه الرسالة، وهاهي ذي رسالته التي أن دلت على شيء فإنما تدل على وفائه وتواضعه ومحبته لسورية التي هام بها من أعماق قلبه:
الأخ العزيز والصديق الكريم
الأستاذ الدكتور محمود السيد حفظه الله
أجمل الشكر وأصدقه على رسالتك النبيلة، المفعمة بأقباس من روحك المتوهجة دوماً بالنقاء والإخلاص وكل صور المودة والمحبة، التي اجتمعت في وجدان واحد، يفيض على كل من حوله، وكلّ من يرد مورده صفاءً ونبلاً وأخوة باقية.
ولقد طالعت في رسالتك البديعة -لغةً ومبنًى ومعنًى- مثالاً رائعاً للغة الكبار من مبدعي الشام الذين تتلمذنا على بلاغتهم وفصاحتهم وسحْر بيانهم وعنفوان تعبيرهم وتصويرهم وليس حبيبنا الدكتور محمود السيد إلا شجرة وارفة الظلال في حديقة هؤلاء الخالدين على تعاقب الأزمان.
حفظك اللـه دوماً، وأبقاك رمزاً مضيئاً نعشو إليه، ونتفيأ ظلاله، ونجد فيه صوت سورية الحبيبة يجلجل ملء حنايانا.
واسلم أيها الأخ الحبيب
فاروق شوشة
فاروق أيها الصديق الغالي:
ما كنت أتوقع أن ترحل عن عالمنا بهذه السرعة، ولكن يبدو أن قلبك البريء والطاهر لم يتحمل ما يزخر به عالمنا على جميع الصعد من جرائم لم تعرف لها البشرية مثيلاً، ومن آثام لم تخطر على بال، ولم يتمثلها أي حال، لم تحتمل أيها العزيز الغالي ما ألم بأمتك من كوارث ونكبات، ومن تشرذم وانقسامات، وأنت الوحدوي الذي ناضل في سبيل إقامة وحدة أمته، ومجّد لقاءها الوحدوي إبان الوحدة بين سورية ومصر، وغنّى لأفراح هذه الوحدة، وآلمه أيما إيلام انفصالها، ولكم كان نبأ الانفصال قاسياً عليك ومحبطاً وممزّقاً لآمالك وأحلامك، ومع ذلك ظللت متشبثاً بأمل هذه الوحدة، عاملاً على التئام أجزائها ومكوناتها في نتاجك الفكري، ولم تثنك عن مسيرة النضال أي عوائق، إلى أن بلغ السيل الزبى، وإذا بالفتن تستعر في أصقاع الأمة، ويقف الحليم أمامها حيران، فما كان لجسمك النحيل أيها الأخ العزيز إلا أن حطّ عصاه مودّعاً أمته بكثير من الألم بعد أن خبا العمل الوحدوي وساد الغل والتفتيت والتشرذم والتمزيق فعزَّ الأمل وساد الوجل، وبعد أن فقدت الأمة البوصلة في أحلك مرحلة، وكيف يمكنك وأنت الشاعر المبدع المرهف الاحساس أن تتحمل ما يسود في هذا العالم من جنون وإجرام بحق المستضعفين على أيدي الإرهابيين ومن غياب لذوي الحكمة والعقل والنهي في الأرضين؟ كيف يمكن أن تتحمل وأنت الشاعر الإنسان الذي دافع عن القيم الإنسانية في جميع مراحل حياته، فكان الأنموذج والمثال للإنسان المثالي الذي يتوق العالم إلى بنائه في عالمنا المعاصر، ولكن هيهات أن يجود هذا العالم بمثلك شعلة وضاءة مفعمة بالنبل والخير وزاخرة بالقيم والشيم!
لقد خسرنا أيها الصديق الغالي بغيابك ركناً مهماً في صرح ثقافتنا الهادفة والملتزمة، وقامة شامخة وعالية علماً وفكراً نيّراً وموضوعية ومناقب رفيعة وأخلاقاً فاضلة، رحمك اللـه الرحمة الواسعة سعة ماقدمته لأمتك من أفانين العطاء الفكري المتنوع المذاق، وتعازينا القلبية الحارة لأسرتك الكريمة زوجاً فاضلة وبنات وأحفاداً، وإخوة وأخوات ولأصدقائك وزملائك ومحبيك، ولمجمع اللغة العربية في القاهرة رئيساً ونائباً وأعضاء وعاملين، ولوطنك المصري الحبيب، ولأمتك العربية، ولعالم القيم والمثل الذي فقد أحد أبنائه البررة العالم الجليل فاروق شوشة الإنسان الخالد في الوجدان على ممر الأيام والأزمان، ولا يسعنا إلا أن نردد قول شاعرنا العربي:
حيٌّ بذكراك لا موتٌ ولا عدمُ
يامن تخلّدك الأخلاق والشيمُ

رئيس هيئة الموسوعة العربية

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن