ثقافة وفن

سبهان.. حتى اللحظة الأخيرة

| إسماعيل مروة 

سبهان آدم ظاهرة.. ظاهرة لونية وفنية، ظاهرة من الجهل تجاهلها وقد حضرت مكانتها بتعب وإصرار ولون وفكر، ظاهرة قد تكون نخبوية تحتاج إلى مزيد من القراءة، ليس في شكل اللوحة ولونها وموضوعها، بل تحتاج إلى دراسة أكثر عمقاً في نجاحها ووصولها إلى آفاق عالمية لم تعد تكترث بالأبعاد المحلية، مع أنه يتوجه إلى المتابع المحلي، ولا يتوقف عن إقامة المعارض في مدينته التي يعشقها ويتشبث بأرصفتها ومقاهيها وإنسانها، مدينة دمشق الخالدة التي يعابث سبهان فيها الأرصفة والأشخاص.. إن تجربة سبهان تحتاج إلى الوقوف عندها ودراستها، تحتاج إلى دراسة النجاح والآليات التي حقق بها سبهان مرتبة عالمية، وهو الذي جرّب الحرف، واكتوى بنار القصيدة التي أحبها، ثم التقط نفسه في عالم منفسح من الألوان، اللون يعبر عنه، وهو باللون يعبر، أخذ مكونات لونه الحارة، وزرعها في إيمانه بنفسه وروحه وموهبته وقدرته ليبدأ رحلة طويلة طويلة مع اللون واللوحة.
سبهان آدم ظاهرة حقيقية، ومن المفارقات ألا تجد قراءات في النقد التشكيلي المحلي لتقويمها سلباً أو إيجاباً، بل لا يجوز أن يتم تجاوز هذه الظاهرة بحال من الأحوال بعد أن صارت ملازمة لكبرى الدوريات العالمية تقويماً وحواراً، ويسأل المتابع: لمَ يملأ اسم سبهان آدم الآذان ويدور على الألسنة، ولكنه يغيب عن الدوريات التشكيلية، وعن النقد التشكيلي؟
أيتعلق ذلك بقراءة اللوحة؟
ربما، فسبهان لا يؤمن باللوحة المقروءة، ولا يؤمن باللوحة التي لا تحمل رؤية استشراقية مستقبلية، فقبل عشر سنوات رسم بحر دم يعوم فوقه رأس مقطوع!! قد يكون ذلك المنظر قاسياً، وقاسياً للغاية، ولكنه رؤية وإحساس من فنان مرهف يسند رأسه إلى أم مقدسة لديه في الحسكة، يستودعها حبه وتقديسه، وتمرّ على رأسه المتعب بأصابعها التي ألهمته، ليكتب لها في لوحة عهداً (أقسم بالله العظيم..) ويغادر بإحساسه ولونه وجسده، ولكن الروح تبقى هناك في أقصى البلاد مع أم تبحث عن ريشة لولدها الذي صار بحجم نسر بألوانه وأدواته..
استودع أرضه قداسة أمه، فأنّى له أن يغادر هذه القداسة؟!
صوّرها كما هي، وعجز عن إنجاز لوحة بحجم قداسة وطن وأم.
سبهان حالة فريدة، فعندما تسأله عن الغد يشير إلى أنه لا يعنيه، وكذلك الأمس انتهى، إنه معني باللحظة الراهنة، ويطلق عليها تسميته الخاصة (اللحظة الأخيرة) فهو لا يكترث بما يدور حوله، ولا يعنيه الدمار والقتل، ويمارس لوحته حتى اللحظة الأخيرة، يرسم، يقدم المعارض، وفي قلب دمشق الضاجّة باللون والحياة والإنسان، وكلمته: سأبقى أرسم حتى اللحظة الأخيرة، فتقول له: حتى تتوقف الريشة، ليجيب بعناد: حتى اللحظة الأخيرة! إنها اللحظة التي لا يستطيع توصيفها أو تحديدها، لكنه يعرف أنها ملكه وحده، ولا أحد يقدر على انتزاعها منه مهما كان هذا الأحد قوياً وقادراً، لأنه لا يملك عناد سبهان وتصميمه، وهو الذي اختار أن يكون مبدعاً بحجم نسر سوري يجوب الكون، وهو على أرصفة دمشق يتأمل ويتألم!
أخذوا كل شيء وغادروا، يقول وهو يسترجع أسماء كثيرين ممن أصبحوا في مكان آخر، ولا يقبل أن يناقش في أي أمر، فالوطن عنده غير قابل للنقاش، والانتماء والعرفان أهم ما يميز رؤيته وشخصيته النامية.
شهدت الحركة التشكيلية نهضة كبيرة مع بدايات القرن الحادي والعشرين في سورية، افتتحت صالات عديدة في مختلف المدن، وشهدت اللوحة حضوراً، وثقافة التشكيل كانت صاعدة، فكيف حصل ما حصل؟ كيف استطاعوا اغتيال أنفسهم؟ كيف عادوا قروناً إلى الوراء؟ على الرغم من التجار والسماسرة فقد نهضت اللوحة السورية، ولكنها اليوم لم تعد كما كانت!
في الشام أرسم بعد أن خسرت مرسمي في الحسكة، ألواني كثيرة، موادي متوافرة، كل ما أريده للحياة في رؤيتي البصرية فوق حاجتي، فهل من حقي أن أندب حظي؟! هل أتسول على حساب الوطن وآلامه وجراحه؟ أنا مع المعذب دوماً، وقد خرجت من العذاب، وعشت ظروفاً قاسية حتى حققت ما أردت، فهل نبتت الحالات الإنسانية اليوم؟ قد يكون حجمها أكبر، قد تكون المأساة أعمق، لكن ليس من حقي أن أتاجر بهم وبآلامهم، فهم سوريون وهم إخوتي وأهلي.
سبهان عرف طريقه وحده
رسم معالم دربه وحده، صنع نفسه بنفسه
يرسم لوحته
يرتب ترويجه لنفسه ولا يبخل على الفن، لأنه يستحق.
الفن أعطاني الكثير، اللوحة نقلتني إلى عالم آخر، وليس من حقي أن أحتفظ بالمال، وألا أجود من أجل اللوحة والفن، لذلك يقدم الفنان لوحته بترف عال، وبجودة لا تقل عن اللوحة، وهو بذلك أعطى الفن حقه كما يجب، واقتدى بأكبر الصالات العالمية وتفوّق. منذ أكثر من عشر سنوات التقيته، لكنني لم أقترب منه أكثر لخصوصيته.
وقبل ست سنوات رأيت لوحاته تتصدر مجلس أدونيس في «قصابين»
لوحات ضخمة شكلاً ومحتوى، وعندما سألت أدونيس قال: هذه لفنان سوري عالمي
اسمه سبهان آدم.. ومنذ ذلك الوقت صرت أترقب أن ألتقي هذا الفنان..
أول ما قاله عند اللقاء: أدونيس شخص مختلف، أراد شيئاً مختلفاً..
بدأت شاعراً، ولم أدرس في الأكاديميات
وجدت نفسي في اللوحة، فابتدأت، واستخدمت موهبتي ومعارفي
وها هو سبهان في أهم الصالات العالمية، وأعماله تقتنى وتتوزع في بلدان العالم ولكنه ينجز لوحته في دمشق.
شعر نزار قباني عالم متكامل بين يديه
لا يغادر، ولا ينتظر الشكر من أحد، لأنه يرضي نفسه، وينظر هناك إلى البعيد، إلى الركن المقدس، إلى أمه التي تفرد غطاء رأسها ليصل إليه في أي مكان كان من العالم
عالم مفتوح حتى لا يضيق الصدر أراده
فضاء لوحة غير محدودة صنع لنفسه
وإصرار على الإبداع والرسم مهم
سبهان آدم تشكيلي في غور اللوحة، استطاع أن يكون على مساحة كبرى، ولم يشأ أن يكون أي شيء آخر يدعي أنه يمكن أن يكونه لو لم يكن تشكيلياً.. حالة خاصة شكلت نفسها بنفسها، ليست مدينة لأحد، لتقول: أنا عاشق للحياة واللون حتى اللحظة الأخيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن