ثقافة وفن

باقات من حدائق الشخصية الأغنى بالإنسانية طاغور … أسوأ أنواع الجهل أن تجهل نفسك… ليت حبي يلفك بضيائه كالشمس

| سارة سلامة

تجولت مسحوراً بين جنبات حدائق طاغور الفسيحة الغنَاء، الموّارة بكل رائعٍ فاتنٍ، وسعيت إلى نظم أضمومةٍ من أزاهيرها المتنوعة الألوان والعطور، ولئن احتلّت منها روائع الشعر المكانة الأثيرة، غير أنها لم تستأثر بالمكان كلّه بل فسحت مجالاً لائقاً للخواطر والحكم والتأملات الصوفية التي ارتقى منها طاغور قمة شمّاء شاهقةً.
بهذه العبارات ابتدأ الكاتب أديب مصلح كتابه الذي جاء تحت عنوان «باقات من حدائق رابندرانات طاغور»، الذي عمل على تقديمها وجمعها ونقلها إلى العربية، وصدر الكتاب عن منشورات المكتبة البولسية في لبنان، محتوياً على جزأين بدواوين متعددة.

ضوء على حياته
عزف عن الثروة والترف واللهو، وأزرى بمظاهر الأبهة الاجتماعيّة، وانخرط في حياة نسكٍ، نشداناً للاستنارة الروحيّة، واختلى في جبال الهملايا، بين القمم المتّشحة بالثلوج، والينابيع الهادرة، وانبرى للنضال من أجل حرية الإنسان وكرامته، ومن أجل إلغاء نظام الطبقات الاجتماعية المتشدد الذي كان يقدسه الهندوسيّون في حين كان يسحق ويذلُّ السواد الأعظم من مكوناته، ودعا إلى احترام المرأة واحترام جميع الأديان العالميّة الكبرى، وآمن بألوهةٍ واحدةٍ شاملةٍ، وقد أثار موقفه الجريء هذا حفيظة الوسط الهندوسيّ التقليديّ، الذي أقصاه، غير أن تقشفه، ونهجه النسكيّ قد استحقّا له لقب «مهاريشي» أي القديس الحكيم.
في جميع كتاباته امتزج النفس الملحميّ، بالنزعة التأمّليّة، والمحاكمة العقلية، قصائده تخاطب قلب كل إنسان، وتهزّ أوتار النفس، موقظةً السموّ الغافي في أغوارها، ومضرمةً أحرّ ما فيها من صبوّ إلى الاتحاد الوثيق بالخالق، وملهبة ً ظمأها إلى الجمال، والنقاء، والحب الأسمى، والخلود.
«رابندرانات طاغور» هو الابن الرابع عشر والأصغر لـ»ديفيندرانات طاغور»، وكان شخصية غنية متعددة المواهب، فهو إلى جانب الشعر، الذي شرع ينظمه في سن العاشرة، ألف العديد من الروايات، ودبّج طائفةً وافرةً من الأبحاث والمقالات، ونعم بإشعاع عالمي رحبٍ، وألف عشرات المسرحيات التي كان يخرجها بنفسه، أما في الموسيقى فوضع نحو ألفين ومئتي نشيدٍ لحنها بنفسه، وفي عمر الستين استعان بالفرشاة والقلم وجسّد خواطره وأحلامه في ألوانٍ ولوحاتٍ، عاش حياته بنضال وقدم خدمات كبيرة للفكر الديني وللتربية والتعليم، وللإصلاح الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، وللنهضة الأخلاقية، عدا عن إثباته أنه شاعرٌ عالميُّ مجل فذ.
باقات شعرية

وهو الجزء الأول من كتاب «أديب مصلح» وضم دواوين متعددة، ومنها:
الفلكيُّ: آه! يا ليت أحداً يستطيع الإمساك بالقمر، ذات ليلةٍ، عندما تكتمل دائرته، ويكون عالقاً بأغصان الشجرة! هذا كلّ ما تلفّظت به.
وسخر مني أخي الأكبر، قائلاً: « أيها الصغيرُ، أنت أكبر أحمق عرفته يوماً. إن القمر هناك، بعيد جداً فما السبيل إلى التقاطه؟»
قلتُ: «بل أنت الأحمق، يا أخي الأكبر، فعندما ترقبنا أمنا من النافذة، ونحن نلعب في فناء الدار، وتبعث إلينا ببسماتها، هل يمكنك الزعم بأنها بعيدة جداً»؟
وأجاب أخي: «أيها الجاهل الصغير، أين يمكن الحصول على شبكةٍ قادرةٍ على احتواء القمر؟»
فقلت: «ما عليك سوى التقاطه بيديك!»
ولكن أخي الأكبر أغرق في الضحك وقال: «لم أرَ، قطُّ، ولداً في مثل سذاجتك. انتظر حتى يقترب القمر، وحينئذ ستتبيّن كم هو كبيرُ»
فقلت: «يا أخي، ما هذه الحماقات التي يلقّنونك إيّاها في المدرسة! فعندما تنحني أمُّنا علينا كي تقبلنا، هل يبدو وجهها مفرطاً في الكبر؟».
وكرّر أخي الأكبر قوله: «إنك لصغير أحمق!»
ملءُ السلام: أبعد عنّي الحبَّ العارم الطاغي، فهو يحاكي الخمرة الفوّارة التي تفجّر وعاءها الخشبيّ، وتسفح، وتهدرُ، سريعاً.
وهبني حبّاً ندياً وطاهراً، مثل غيث مطرك الذي يؤتي الأرض العطشى البركة، ويملأ جرار المنزل.
هبني حبّاً يتسرب إلى مركز الكيان، ومنه يتفجَّر نسغاً يسري في أغصان شجرة الحياة، ويولد الزهور والثمار.
هبني الحبَّ الذي يشيعُ القلب، ملءَ السلامِ.
عطاء اللهِ: يا الله، أعطيت العصفور التغريد، وهو يشدو شدوه، ولا يقوى على أكثر منه. وأعطيتني الصوت، وأنا أعطي أكثر من الصوت: أخلق أناشيدي.
وهبت الريحَ الحرّيّة، لكي يكون خادمك هذا، بطبيعته، محرّراً من كلّ قيدٍ، وأنا كلفتني بحمل ألف لونٍ من الأعباء، أسير بها بعناءٍ، على دروبٍ محددة أو مستقيمة..
وذات يوم سأطهر عند قدميك، وقد تحرّرت ذراعاي كي تخدماكَ وحدك.
وهكذا كل القيود هي لي وسيلة تحرُّر.
لم تعطِ وجه البدر سوى بسمة، وهو يسكب أحلاماً عذبةً، ويغمر الأرض بكوثره السماويّ. وكسوت جبيني الملتهب بالألم.

خواطر وحكم
وهو العنوان الذي أختاره الكاتب للجزء الثاني وضم العديد من المقتطفات والحكم:
يقظة وتساؤل: إن أسوأ أنواع اللاوعي هو جهل الإنسان لنفسه، عندها يضحي جهلنا للإلهيّ بدهياًّ، حيث لا نشعر بغيابه، فلتنتزعنا الدعوة الداخلية» استيقظ، «من حالة اللامبالاة والذهول عن حقيقة كياننا، ولينشأ في قلوبنا ألم جارح كفيل بهز خدرنا! وليفتخر من أعماقنا هذا التأوه: «لست ألحظ حضورك فيَّ، والحياة تبدو لي فارغة من المعنى، فلتنبض كلّ أوتار نفسي بهذه الصرخة:«عساني أعثر على دربي، خارج ظلمة الجهل!».
غالباً ما كان يُطلب من الشاعر طاغور تدوين حكم، وأقوال موجزةٍ، كثيفة المضمون، مسكوكة العبارة، باهرة الصور، وكان الذين يظفرون بها يطبعونها على أقمشة حريريةٍ، ويحتفظون بها، أثراً نفسياً غالياً.
من هذه الأقوال ولدت مجموعة يراعات وهذه مقتطفات منها:
في رحاب النفس:
– ليت حبي يلفُّك بضيائه كالشمس،
ويدعُ لك حريةً مشرقةً.
– الذاكرة كاهنة تقتل الحاضر،
وتقدّم قلبها على هيكل الماضي الميت.
– هجاء الكبار كفرٌ، لأنه يؤذي الذات،
وهجاء الصغار حقارةٌ، لأنه يؤذي غيرنا.
– تبتسم المصلحة للطيبة،
كلما توسّمت فيها نفعاً.
– قد يغدو الضعيف مخيفاً،
بسبب سعيه المسعور إلى إظهار قوّته.
توثبات روحية:
– إن كان اسمي لك عبئاً،
فاقصه عن تقدمي،
واحتفظ بنشيدي.
– تقول النجمة: «دعوني أضئ مصباحي،
غير مستفسرةٍ هل سيبدد نورها الظلمات»
– الآلهة التي تسأم فراديسها
تحسد بني البشر.
– المتصدق يصل إلى باب الهيكل،
أما المحب فيدخل إلى المحراب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن