ثقافة وفن

الأبلق قصر الإمارة الفاطمية بدمشق

| شمس الدين العجلاني

كان في الزمن الغابر قصر جميل يقع على ضفاف نهر بردى في منطقة تحف بالأشجار والمياه.
هذا القصر هو قصر الأبلق، وحسب قول إبراهيم السامرائي في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة: (الحجر الأبلق وهو نوع من الفنون الهندسية الإسلامية التي كانت تتسم بها العمارة في بلاد الشام ومصر وبعض مناطق الجزيرة العربية، حيث تعتمد على تشكيل الكتل الجصية المربعة أو المستطيلة، حيث يغلب عليها نقوش وزخارف جميلة ذات ألوان مختلفة- حيث يدخل فيها الحجر الأبيض مع الأسود أو الوردي.. وكانت تركب فوق أبواب القاعات أو في داخلها. ومن أهم الأمثلة التي استخدم بها هذا الحجر هو قصر العظم في دمشق سورية).
وأصل الكلمة هو يمني، وهو البَلَق – «في لغة أهل اليمن نوع من الحجر، وهو كذلك حجر كلسي في المعجم السبئي، وقد ورد ذكره في النقش المرسوم.
اشتهر أن قصر الأبلق هو قصر الملك الظاهر بيبرس البندقداري مكان التكية السليمانية الآن، وبيبرس (أي الفهد) هو مملوكي أسس دولة من أقوى الدول في ذاك الزمن ووحد سورية تحت سلطته، ولكن الأصح أن بناءه تم في العهد الفاطمي وجدد زمن الملك بيبرس.

بناء القصر وخرابه

يعد قصر الإمارة الفاطمية بدمشق من أشهر القصور التي بنيت حول سور دمشق القديمة، في منطقة كانت تعرف باسم الميدان الأخضر أو ميدان الخيل.. يقع القصر في أجمل بقعة في دمشق، ففي شماله نهر بردى، وفي جنوبه نهر بانياس، وفي غربه المرج الأخضر، وفي جهته الشرقية بستان النعنع. وبني حوله مجموعة من المنازل والبيوت لعلية القوم من الشيوخ والقضاة والعسكريين… خربت جميعها في فترة الاحتلال العثماني.
بني القصر بالحجر الأبيض والأسود ودعي بالقصر الأبلق ثم هدم هذا القصر تيمورلنك عندما غزا دمشق ونزل به عده أيام ثم أمر بهدمه وإحراقه وكان ذلك نحو عام 1400م: (فانتقل إلى القصر الأبلق، ثم إلى بيت بتخاص وأمر بالقصر أن يهدم ويحرق – شهاب الدين الدمشقي الأنصاري)، (نزل تيمور بالقصر الأبلق من الميدان ثم تحول إلى دار وهدمه وأحرقه – ابن العماد في شذرات الذهب).
وبقي مهدوماً إلى زمن السلطان العثماني سليمان القانوني فأنشأ بأنقاضه مستخدماً أساساته التكية الموجودة والمعروفة حتى الآن بالتكية السليمانية.
ولكن هنالك فقره ضائعة!؟ هل فعلاً بقي القصر مهدماً إلى زمن الاحتلال العثماني؟ فقد ورد عند المؤرخ الغزي، أن السلطان سليم نزل في قصر الأبلق حين دخل دمشق عام 923 هجري 1517 ميلادي، ما يؤكد أن القصر ظل قائماً حتى الفترة العثمانية. و(أمر السلطان سليمان بتعمير التكية السليمانية بدمشق فعمرت في موضع القصر الأبلق بالوادي الأخضر- الغزي). وهنا التسائل الذي غفل عن ذكره: هل رمم القصر بعد إحراقه من تيمورلنك (والثابت بكل المصادر أن الأبلق هدم وحرق من تيمور) بحيث استطاع السلطان سليم النزول به، ومن ثم قام العثمانيون بهدمه وإنشاء التكية مكانه؟

وصف قصر الأبلق
جاء في وصف القصر عند «ابن طولون الصالحي» في كتابه «تراجم نبلاء العصر» والمؤرخ ابن طولون المتوفى عام 953 هـ شاهد القصر من الداخل والخارج وقرأ تاريخ بنائه في سنة 668هـ وقال: (المرجة وبها القصر الأبلق وكان من عجائب الدنيا، يشرف على الميدان الأخضر شرقيه أنشأه الملك الظاهر ركن الدين عقب رجوعه من حجته في المحرم سنة ثمانٍ وستين وستمئة، كذا رأيت هذا التاريخ أعلى بابه الشمالي، وعلى أسكفته ضرب خيط من رخام أبيض ووسطه مكتوب: عمل إبراهيم بن غانم المهندس، وبابه الآخر ينفذ إلى الميدان ومن واجهته البلقاء ثلاثون شباكاً، سوى القماري ووسطه قاعة بأربعة لواوين قبلي وشمالي، في صدرهما شاذروانات، وغربي شرقي في صدر كل منهما شبابيك، فالغربيان مطلان على الطريق الآخذ إلى الحمام وتربة الصوفية والشرقيان مطلان على الميدان، وعلى واجهته الشرقية مئة أسد منزلة صورهما… وعلى الشمالية اثنا عشر أسداً منزلة صورهما بأبيض في أسود وشمالية على حافة نهر بردى قصر شيخنا الزين ابن العينين وقبليه أعلى الكجانية قصر شيخنا قاضي القضاة الشهاب ابن فرفور، وغربيه قصر شيخنا الشهاب ابن الصمدي وكان من هذه القصور بوابون صيفاً وشتاء، وقد خرب جميع ذلك في الدولة العثمانية، ولم يبق إلا واجه القصر الـبلق الشرقية).
على حين يقول عبد القادر الريحاوي: «وصفه المؤرخون بأنه كان قصراً عظيماً، بني بالحجر الأسود والأصفر بتآلف غريب وإحكام عجيب، وقيل سمي القصر الأبلق لأنه مبني بالحجارة البيض والسود، على واجهته صور أسود منزلة أجمل من الأسود والنمور في قلعة حلب).
ووصف ابن فضل اللـه العمري قصر الأبلق بقولة: (مبني من وجه الأرض إلى نهاية أعلاه بالحجر الأسود والأخضر مدماكاً من هذا ومدماكاً من هذا. بتأليف غريب وإحكام عجيب، ويدخل من دركاه له جسر راكباً بعقد على حجرى الوادي إلى إيوان براني يطل على الميدان القبلي، ثم يدخل إلى القصر من دهاليز فسيحة تشتمل على قاعات ملوكية تستوقف الأبصار وتستوهب الشموس من أشعتها الأنوار بالرخام الملون قائماً ونائماً في مفارشها وفي صدورها وأعاليها وأسافلها مموهة بالذهب واللازورد والفص المذهب وأزر من الرخام إلى سجف السقوف وبالدار الكبرى بها إيوانان متقابلان تطل شبابيك شرقيهما على الميدان الأخضر الممتد وغربيهما على شاطئ الوادي الأخضر والنهر به كأنه ذوائب الفضة. وله الرفارف العالية المناغية للسحب. تشرق من جهاتها الأربع على جميع المدينة والغوطة والوادي كامل المنافع بالبيوت الملوكية والإصطبلات السلطانية والحمامات والمنافع المكملة لسائر الأغراض وتجاه باب القصر باب يتوصل من رحبته إلى الميدان الشمالي).
وقد تكلم ابن شداد عن قصر الأبلق الذي أشرف المهندس إبراهيم بن غانم على بنائه وترميمه، فقال: (إن الملك الظاهر دخل دمشق بعساكره المنصورة على التتار، يوم الخميس، السابع من المحرم عام 676هـ، ونزل بالجيوش «القصر المعروف» بالأبلق، بجوار الميدان الأخضر. وسمي الأبلق لأن جدرانه بنيت من حجر أسود جلب من حوران، وحجر أصفر جلب من حلب، وظل هذا القصر قائماً حتى هدمه تيمورلنك عام 803هـ/1401م.) وقول ابن شداد إن الملك بيرس نزل في قصر الأبلق هو دليل على أن القصر بني قبل قدوم بيبرس إلى دمشق.

مهندس القصر
تشير صفحات التاريخ إلى مهندس عربي اسمه إبراهيم غانم عاش في القرن السابع الهجري/الثالث عشر للميلاد، كان المعماري الذي أسهم في إنشاء قصر الأبلق.
لم يحظ هذا المهندس باهتمام أصحاب الشأن في التأريخ والتوثيق، فذكر في بطون الكتب القديمة (مرور الكرام) وتذكر الموسوعة العربية أنه مهندس عربي، عاش في القرن السابع الهجري/الثالث عشر للميلاد. ذكره محمد كرد علي في كتابه «خطط الشام»، في معرض كلامه عن المدرسة الظاهرية الجوانية. وبعد أن فصّل القول في المدرسة ذكر أنه كتب على واجهة بنائها جريدة وقفها بحروف غليظة. ونقش اسم مهندسها في الزاوية الشمالية من المدخل وما زال النقش قائماً على النحو الآتي (عمل إبراهيم بن غانم المهندس).
كان للمهندس إبراهيم العديد من البصمات المعمارية المهمّة بدمشق ومن أهمها عمله في قصر الأبلق وبناء ضريح الملك الظاهر بيبرس البندقداري عام 670هـ /1277م.

التكية السليمانية
التكية عبارة عن مدرسة تنتمي إلى فصيلة المباني الدينية ولها وظيفة أساسية هي إقامة الشعائر وفرائض العبادة ما جعلها مكاناً للمتصوفة ينقطعون فيها ويأمنون الخلوة للدعاء والصلاة.
شيدت التكية السليمانية على أنقاض قصر الأبلق أو قصر الملك الظاهر بيبرس لاحقاً، واستعملت العديد من المداميك والجدران القديمة في بنائها، وقد بنيت في عهد العثماني سليمان القانوني، بدئ في بناء التكية عام 1554م في عهد الوالي على دمشق (خضر باشا) وتم البناء في عام 1559م وبدأ في بناء المدرسة الملحقة بها عام 1566م أيام الوالي لالا مصطفى باشا.
سميت نسبة إلى السلطان سليمان القانوني الذي أمر ببنائها، نسب تصميم التكية إلى المعماري التركي معمار سنان، أشهر معماري عثماني، ولكن أغلب المصادر تؤكد أن الدمشقي المعلم السلطاني شهاب الدين بن العطار الذي كان سابقاً في خدمة المماليك، وجماعته من معماريين محليين هندسوا التكية، وأيضاً أشرف على بنائها المهندس الإيراني الأصل ملا آغا.
كان المدخل الرئيسي للتكية من الباب الشمالي المطل على بردى وأمامه جسر يمتد حتى شارع بيروت. وتتألف التكية من التكية الكبرى التي تتألف من مسجد ومدرسة. والتكية الصغرى التي تتألف من حرم للصلاة وباحة واسعة تحيط بها أروقة وغرف تغطيها قباب متعددة. كانت التكية الصغرى مأوى للغرباء وطلبة العلم، وتضم اليوم المتحف وسوق الصناعات الشعبية. وأبرز ما يميز طراز التكية السليمانية مئذنتاها النحيلتان اللتان تشبّهان بالمسلّتين أو قلمي الرصاص لشدة نحولهما، وهو طراز لم يكن مألوفاً في دمشق حتى تلك الحقبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن