من دفتر الوطن

أستاذي­­، السيِّد عِلْم

| حسن م. يوسف 

في أواخر الثمانينيات رأيت على شاشة التلفزيون السوري، مسلسل «الكون، رحلة شخصية» الذي كتبه وقدمه عالم الفلك الأميركي الفذ كارل ساغان، ومنذ ذلك الوقت بدأت أتابع هذا العالم النبيل حتى صار أحد أهم أساتذتي، وعندما توفي عام 1996 عن 62 عاماً حزنت عليه كما لو أنه صديق شخصي.
حاز ساغان جائزة بوليتزر، كما منح وسام آرستر ووسام ناسا مرتين. رغم ذلك لا تزال بعض الموسوعات تشير إليه على أنه « من أبرز المساهمين في تبسيط علوم الفلك والفيزياء الفلكية وغيرها من العلوم الطبيعية. وكان له دور رائد في تعزيز البحث عن المخلوقات الذكية خارج الكرة الأرضية… الخ» وفي هذا الكلام خلط خطر، فإنجاز ساغان العلمي، برأيي، يتسم بعبقرية البساطة، ووصفه بـ«التبسيط» يشبه الإهانة، إذ شتان بين التبسيط الضحل وبساطة العبقرية المضيئة.
وصفت صحيفة «نيوز دي» ساغان بقولها: «هو فلكي ينظر بعين إلى النجوم، وبأخرى إلى التاريخ وبعين عقله، الثالثة، إلى الطبيعة الإنسانية». وهذه السمات جعلت الناس يسمُّونه Mr. Science أي (السيد علم).
كان ساغان قلقاً على مستقبلنا فقد قال قبل رحيله: «نحن نعيش في مجتمعٍ يعتمد تماماً في حياته على العلم والتقنية إلا أنه تمكن بطريقةٍ مدهشة من إخراج الأمر، حيث إن أحداً من أفراده لا يفهم شيئاً عن العلم أو التقنية وهذه وصفة واضحةٌ لكارثة».
لست أكتب اليوم عن ساغان لمناسبة مرور عشرين عاماً على رحيله، بل رغبة مني في تقديم واحدة من أفكاره البناءة التي أومن أنّ من شأنها أن تساعد شعبي في إعادة بناء مجتمعه ودولته.
سبق لي أن كتبت مراراً، عن ضرورة بدء عملية إعادة البناء بالتعليم، وقد توقفت مؤخراً في حديثي الأسبوعي الذي يبث صباح السبت عبر سوريانا إف إم عند قضية قتل المواهب، فقد أثبتت الدراساتُ الحديثة أن نسبةَ المبدعين من الأطفال من سنِ الولادةِ حتى سنِ الخامسة، تصلُ إلى 90% منهم، وعندما يصلُ هؤلاء الأطفال إلى سنِ السابعةِ تقِلُّ تلك النسبةُ لتصلَ إلى 10%، وما أن يصلوا إلى الثامنةِ حتى تحُطَّ الموهبةُ رحالَها على 02% منهم فقط.
إن هبوط نسبة الموهوبين بين الأطفال من تسعمئةٍ بالألف إلى اثنين بالألف، هو مؤشرٌ فظيعٌ على أن ما نسميه نحن (تربيةً) ما هو في حقيقةِ الأمر إلا قتلٌ منهجيٌّ للمواهب. وكان كارل ساغان قد توقف عند هذه الظاهرة في تقديمه لكتاب «تاريخ موجز للزمن، من الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء «الذي أصدره العالم العبقري ستيفن هوكينغ عام 1988، فالأطفال على حد قول ساغان على العكس من البالغين يطرحون أسئلة كبرى « من أين أتى الكون؟ هل كان دائماً هنا؟ وهل يأتي وقت ينساب فيه الزمن وراءً وتسبق النتائج الأسباب؟ أو هل هناك حدود قصوى لما يستطيع البشر أن يعرفوه؟» وقد اعترف ساغان أنه قابل أطفالاً «يريدون معرفة كيف يبدو الثقب الأسود، وما أصغر جزء من المادة؟ ولماذا نتذكر الماضي وليس المستقبل؟ وإذا كانت هناك فوضى في أول الأمر فكيف حدث أن هناك الآن نظاماً؟ ولماذا يوجد الكون؟»
ويحدد ساغان علة العلل إذ يقول: «اذهب وتحدث مع أطفال الروضة أو الأول ابتدائي، ستجد صفاً مملوءاً بالشغوفين علمياً الذين يسألون أسئلة عميقة: ما الحلم؟ لماذا لدينا أصابع أرجل؟ لماذا القمر دائري؟ ما تاريخ ميلاد العالم؟ لماذا العشب أخضر؟ وهذه الأسئلة العميقة والمهمة، ترتفع منهم كالفقاعات. أما إذا ذهبت للتحدث مع طلاب البكالوريا، فلن تجد شيئاً من ذلك، إذ فقدوا فضولهم، لقد حدث شيء سيّئ بين الروضة والبكالوريا».
لكل ما سبق كتبت وسأكتب عن ضرورة إعادة النظر بنظامنا التعليمي، فبناء الإنسان هو ضمان كل بنيان، وما عدا ذلك هو عبثٌ وقبض ريح!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن