ثقافة وفن

لبنان المترامي من المقاومة إلى ألق الإبداع .. د. نجاح العطار رسالة حب وذكريات المشيمة الواحدة مع لبنان

| إسماعيل مروة

لبنان، الشقيق والمجاور، القطر العربي الذي تربطه بسورية علاقات تاريخية وطيدة، عجزت كل المحاولات عن فصم عراها، ولم تخل مرحلة من مراحل تاريخنا الحديث من محاولات لإنهاء هذا التواشج فكرياً ولغوياً وسياسياً وقومياً، بل حتى من المناحي الأدبية، وكل تلك المحاولات أخفقت، ووجدنا لبنان حضن سورية، وسورية حصن لبنان، وربما كان من الأجدى البحث عما يمكن أن يجمع هذين البلدين، وعما يوحد آمالهما وآلامهما في مواجهة الحياة المتقلبة… لم تستطع سنوات الحرب والاحتراب اللبناني أن تسحب لبنان من بؤرة الاهتمام السوري، ولم تغير في جوهر البحث عن المشترك فناً وألقاً ومقاومة، وحياة مشتركة..
لبنان المترامي كان كتاب السيدة الدكتورة نجاح العطار مفاجئاً عن لبنان لكثيرين، خاصة في هذه المرحلة التي تخوض فيها سورية أقسى حروبها الإقليمية والعالمية، وطرح بعضهم، ربما سؤالاً: لماذا لا يتم الاهتمام بسورية في هذه الظروف؟ وما جدوى أن يجمع كتاب عن لبنان الذي يعيش ظاهرياً في ظروف مختلفة عن سورية في هذه السنوات العجاف؟!

ولكن البحث في الجوهر، في جوهر الأشياء والكلمات والتعابير يظهر الإجابة، فمن العنوان تبدأ السيدة الأديبة الدكتورة العطار ثنائية الألق والإبداع في الحياة والمقاومة، وليس من تناقض بين المقاومة والإبداع فكلاهما ملهم يوحي ويعطي الكثير في جميع مناحي الحياة، ولعل من الميزات التي تمتع بها الكتاب المفاجأة لغير المتابعين أنه قراءات ولقاءات ومؤتمرات ومراسلات بين 1975 وعام 2009، وهو لا يتناول جانباً واحداً أو وجهة نظر واحدة، بل يشكل خريطة جغرافية تنقل بها قلم الأديبة المتفوقة بين طرابلس وبيروت وصيدا، ولوحة فكرية زينها حسين مروة ورضوان الشهال وسليم الحص وهنري زغيب وكرم ملحم كرم وقسطنطين زريق، وشهادات مسؤولة عن لبنان الحر السيد إلى صبرا وشاتيلا وسناء محيدلي والمقاومة الوطنية اللبنانية بكل أطيافها، وتاريخ بدأ من هنا وانطلق من هناك، أو ولد هنا وأتم نماءه هنا من صور ملكة البحار، إلى قاسيون وصنين، وطرابلس وطرابلس الشام والشام… وكل ذلك تسوقه الدكتورة العطار في إطار بحثها الدؤوب عن الكلمة ودورها، هذه الكلمة التي جمعت كل ما هو لبناني وسوري، وشآمي وبيروتي وطرابلسي وجنوبي.
فالكتاب أولاً تجب قراءته قبل أن ينظر في الموضوع والمناسبة والظروف، لاكتشاف رسالة الحب التي تريدها د. العطار دوماً، وكل رسالة، وكل مشاركة مثبتة بتاريخها، فهي ليست آنية، وليست استجداء لتاريخ أو علاقة، بل هي توثيق حي لمشاعر أدبية، وإسهام في الحياة السياسية والثقافية يدور في فلك هذا التواشج الذي لم تؤثر فيه الحرب الأهلية اللبنانية، ولن تؤثر فيه الحرب على سورية، وربما شكلت هذه القراءات واخزاً لوعي الكثيرين للعودة إلى حقيقة ما يربط السوريين باللبنانيين، وسورية بلبنان بعيداً عن التفوق أو الهيمنة.
عالم من أدب وفن وفكر أجدني مجبراً على الانتقاء لكثرة الغايات، ونبل المقاصد، فمن الصعب اختصار كتاب تكتبه الدكتورة العطار ببلاغة يصعب معها الاختصار والاختزال، وهذا الانتقاء يقوم على تبويب ما أمكن من هذه الوقفات للوصول إلى خطوط متوازية نثرت في كتاب توثيقي لغايات كلها نبل. ولعل أول ما لفت انتباهي في هذا الكتاب هو الكم المحترم للمنارات الفكرية والثقافية والفنية، فمن منا لم يقرأ حسين مروة وما قدمه؟ ومن منا لم يألم لاستشهاده؟ ومن جنوب لبنان إلى السيدة زينت رحلة طويلة من الفكر والجدل.. ومن منا لم يعرف قسطنطين زريق؟ ومن منا لم تصافح عيناه لوحة لكتاب للفنان الشهال، ومن روايات وقصص لأدباء عرب وسوريين كانت ريشة الشهال قادرة على إكسابها الروعة والخلود؟ عندما كتب بديع حقي (جفون تسحق الصور) عن عالم المسحوقين في دمشق كانت لوحة رضوان الشهال من روح دمشق وعالم حقي الروائي، أقول هذا حتى لا ينظر إلى ما قيل في حسين مروة وقسطنطين زريق ورضوان الشهال نظرة احتفالية، بل أن ينظر إليها من خلال تأثير هؤلاء القادة في الفكر والفن، في الحياة المشتركة لسورية ولبنان.
«وما من شك في أن كاتباً ينجز ما أنجز الدكتور حسين مروة، ويبذل من سنوات العمر، في سبيل أن يصنع تراثنا في النور، ما بذل، خليق بالتكرمة، وخليق بالإعجاب غير المحدود، وبالثقة غير المنقوصة، وجدير بأن يكون لنا قدوة، ولأجيالنا مثلاً، وأن نحتفي به هذا الاحتفاء الذي هو رمز، لأنه احتفاء عاجز، مهما يكن كبيراً وضخماً.. هكذا تتعانق الكلمة والموقف، ويغدو الفكر سلوكاً، والثورة طريقاً، والمقاومة الوطنية شرفا، ويصبح الأديب في محنة الاجتياح والحصار، والقصف، مفادياً، فلا هو يجزع، ولا هو يبرح، ولا يكف عن شحذ قلمه، لتكون كلماته رصاصات قاتلة في صدور الأعداء، وصياغات لوجدانات الذين يطلقونها، ويقدمون أنفسهم قرابين على مذبح التحرير».
أشرت إلى أنني أختار ولا أختصر، والدكتورة العطار في حديثها عن المفكر الشهيد الدكتور حسين مروة لا تدعي معرفته القديمة إلا بالقراءة، وتذكر بوضوح أن معرفتها الشخصية به قريبة العهد، عندما استشهد وتحدثت عنه، لكنها وضعت ركائز لا يمكن للمفكر الحر، والوطني النبيل أن يحيد عنها:
– وضع التراث في النور، وهذا ما عمل عليه المفكر في حياته بإعادة قراءة التراث.
– الإعجاب بمثابرته وثقته وجهوده، وكل ذلك غير محدود.
– الثبات على المواقف وعدم التهيب من أي شيء يمكن أن يناله بسبب فكره.
– عند المحن والاجتياحات على المفكر أن يتوافق مع وطنه ليشحذ قلمه، ويقدم لوطنه ولأبناء هذا الوطن خلاصة ما يملك ليكون منارة للأجيال.
– أن يتحول الأديب والمفكر إلى رصاصة لوطنه في وجه الأعداء، والفرق كبير بين أن تكون رصاصة لوطنك أو رصاصة توجه إلى صدر الوطن…
ألا نحتاج لهذا المثال اليوم في ظل ما تتعرض له الأمة، وسورية تحديداً من حرب ظالمة لا تبقي فكراً ولا إنساناً؟
ولقسطنطين زريق مكانة سامية بسبب عطائه غير المحدود في حياته العلمية والأكاديمية، وهو منارة تقف الدكتورة العطار عندها في وقت صارت القامات نادرة والوقوف عند المنجز لا الشخص «الفناء لا يطول العطاء، وعطاء أستاذنا وفقيدنا العظيم الدكتور قسطنطين زريق باق ما بقي الحرف العربي، فقد توهج قلمه، وطنياً وقومياً، بالنكبة ومعناها، فأفاء على الوطن العربي بنعمى المعرفة، محولاً النضال من هشيم حماسة، إلى أبجدية علم» ودقة الرأي تظهر مدرسة الدكتورة العطار الفكرية التي لا تقف عند الحماسة التي لا طائل تحتها، وإنما تسعى إلى التأسيس لأبجدية علم، وهذا ما كان من العلامة زريق في الوقت الذي كانت الأمة بعد النكبة تغط في بكائيات وحماسيات لا قيمة لها، وزريق أسس للعلم والبحث لبناء مستقبل مختلف كل الاختلاف يقدر على مواجهة الطغيان والعدوان.
وعندما تتحدث عن كرم ملحم كرم تكرم الشخص، وتستعرض حياته وإنجازاته، لكنها تقف عندما يعنى المثقف الملتزم بأمته وقضاياها، وذلك لتظهر وجه لبنان المتوافق مع ما هو موقف وقومي ومقاوم «ويستوقفنا كرم ملحم كرم لا في إبداعاته وغزارة انتاجه فحسب، بل في مواقفه وسيرة حياته، هو المناضل المتقحّم، صاحب القلم الصلب، المتوهج بالثورة، وبضرورة المقاومة، والتمرد على استبداد المحتل، وعلى كل أشكال الظلم والطغيان، لا السجن يخيفه، ولا توقيف العاصفة يردعه، فالمشعل الذي يحمل ينبغي أن يظل نوراً وهاجاً، يضيء للمناضلين، وبكلامه الغاضب الذي يزلزل مفاهيم العجز والخنوع، ويدفع الناس إلى رفض المصير المظلم، نقش العاصفة في الهواء» قولة سعيد عقل، وهو يعلن أن «من لا وطن له فهو الشريد الطريد المنبوذ المهان».
ما بين كرم ملحم كرم وسعيد عقل مقولات غاية في الأهمية والخطورة طرحتها د. العطار، ونحن نحتاجها اليوم كما احتاجها لبنان من قبل:
– مواجهة الطغيان واستبداد المحتل.
– رفض العجز والخنوع والمصير المظلم.
– من لا وطن له فهو الشريد المنبوذ المهان.
فهل شعر أحدنا أن وطنه هو عزته وبقاؤه، وأن التضحية بالوطن تحت شعارات براقة هي التي تحول الواحد منا إلى شريد ومهان ومنبوذ؟
كلمات الأمس، كلمات اليوم، رواسم الغد من كاتبة تقدر الحرف ودوره في بناء الإنسان والحضارة والوطن.

وللإبداع الشمولي مكانه
عرف جيلنا الفنان المبدع رضوان الشهال، قرأنا إبداعه، رأينا لوحاته، شممنا إبداعه، وها هي في رحيله تقدم الدكتور العطار شهادة بالشهال تنقل صورته للأجيال القادمة، فهو ليس مجرد مبدع ورسام، إنه كتلة من الإبداع الذي يستحق الاحتفاء به ومشاركته ساعة الرحيل إلى جوهر البقاء «قرأته في شعره، ونثره، ودراساته، ورأيته في لوحاته ورسوماته، وتوقيعاته التي تحمل ذلك الاسم المشع ألقاً وأنساً، اسم رضوان الشهال، الذي أعطى وأعطى طوال عمره، للحياة والفن والتحرر والتقدم، وحب الإنسانية العظيم، فخرجت من قراءتي وتأملاتي ومشاهداتي بإعجاب هو وحده، كفنان كبير جدير به، جدارة الفن الأصيل… إن التحية، في موقف الدمعة، هي تحية تجتلي من الغوطة خضرتها، ومن قاسيون شموخه، ومن دمشق التي أحبها جميل ذكرياتها عنه، فليكن في الراقدين الخالدين».

وللمقاومة والإنسان
إن كل ما في الكتاب له مساس مباشر بالمقاومة والفعل المقاوم، فالفكر الذي مثله حسين مروة وقسطنطين زريق مقاوم، والإعلام والفن والإبداع عند كرم ملحم كرم ورضوان الشهال فعل مقاوم، ولكن الدكتورة العطار تقف عند المقاومة الوطنية اللبنانية بشكل مباشر، لتذكر الشهداء والتحرير والجنوب وعرائس الجنوب، وكل ما يمكن أن يؤكد حق الإنسان بالأرض والمقاومة والحياة الكريمة الجديرة، فخلدت سناء محيدلي، وكرمت دور المرأة في الكفاح بكلمة مؤثرة ومعبرة «ذلك أن المرأة، بما ابتدعت من أمثولة في الاستشهاد، قد صارت قدوة في التضحية، على نحو بالغ الجرأة، بالغ الدلالة، بالغ العظمة… فسلام على المرأة العربية المقاومة وسلام على المقاومة اللبنانية التي تزرع الموت والدمار في مواقع العدو وعملائه، وسلام على المقاومة الفلسطينية، وسلام على أهلنا الصامدين في الجولان…».
فالمقاومة وألقها وشرفها متواصل متواشج بين كل المواقع التي تعاني احتلالاً في لبنان وفلسطين والجولان، وهذه الوحدة في المصير بلغت ذروة البلاغة عند د.العطار، ومن خلال سناء كانت المرأة والوطن والمقاومة.
وعن مفهوم الإنسان والثقافة والإبداع تقدم د.العطار مقولتها التي تختصر رسالة الثقافة وضرورة شموليتها «ويبقى الإنسان، في ثورة الثورات، هو الثورة الكبرى، مخلوقاً ومتخلقاً، مبدعاً ومبتدعاً، تحاربه الأفهام من دون أن تدرك لسره شأواً، حتى مع إدراكها، وبرغم إدراكها لكل أسرار هذا الكون العجيب. ذلك أن الإنسان، وما أعظم، قد كان فاعلاً نسبياً في الطبيعة، فصار، في صراعه الجبار معها، فاعلاً مطلقاً تقريباً فيها… وفي استخلاص أسرار هذه الطبيعة، نجد أن الثقافة هي الأساس، فلولاها ما كانت أداة، وما كان ترويض، وتالياً ما كان انكشاف سر أو استخلاص جوهر».
لبنان هذا الفضاء المترامي، كتاب حب للبنان وسورية، وكتاب في الثقافة وجوهر الفعل الثقافي، وفي ضرورة الثقافة والمعرفة، ويرتفع الحب درجات عندما ندرك أن هذا الكتاب إن لم يحمل عنوانه، فهو رؤى وصوى في الثقافة والفكر على المستوى الإنساني الكبير الذي لا يحيط به امرؤ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن