ثقافة وفن

«أعطني قاسيون منك تراباً.. فثرى الشام يحفظ الأعمارا» … شهاب مدَّ جسور الحب من العراق إلى الشام

| سارة سلامة

صدر عن مؤسسة تموز للطباعة والنشر والتوزيع كتاب يضم المجموعة الشعرية الكاملة للشاعر العراقي أحمد شهاب، واكبت فيها أعماله كاملةً من العام 1990 وانتهاءً بالعام 2016، دمشق لم تغب في شعره فهي حُفّرت بذاكرتهِ، وظل مخلصاً لكل ما عاشه فيها بكل لحظة، وأهداها الكثير من الكلمات الطيبة، لم ينس حلب، لم ينس هواءً اشتمه في قاسيون، لم تكن العراق لتنسيه ما عاشه في سورية فظل ابنها البار الوفيّ، وخلّد في أعماله تلك الأيام الجميلة التي نقشت فيها دمشق أجمل الذكريات.

من يستطيع الآن حذفك من شراييني
وطعمُ التوتِ فيّ يسافرُ
وطفولتي الأولى ووجهك نهرها
نرمي الحصى فلها عليه دوائرُ
ونوارس(الجسر العتيق) رأيتها
تأوي إليك فللطيور مشاعر
ها أنت في مقهاكَ صرتَ مهمّشاً
والموتُ في أقداح شايك ساخرُ.
في زوربا الموصليّ يمتزج في شعره الحب والحاجة أو الندم على الماضي وذكريات جميلة خلت، أصبحت في صفحات النسيان، فهو بحاجة لكل دقيقة لكي يتعرف أكثر على نفسه وعلى فتاة جميلة يحبها:
أرجو أن يمهلني العمر
لكي أصادقني أكثر
وأفتش في دفتر نسياني عن نسيان آخر
كي أطلب من صيفي القادم أن يحضرّ
كي ألقى فتاةً حافية شدّت خصلات الشّعر بشريط أبيض
كي ألقاني خلف عيونك في مرسين
وأحرس مشيك فوق الرمل.
في هذه القصيدة التي اختار لها عنوان «عزف أولي على أهداب دمشقية»، يشكو شهاب وجعه ويناجي أرضه العراق التي اختارها الغزاة حلماً لهم، لم يعد هناك مأوى، أين السبيل وإلى أين يذهب، لكنه لم يحتر كثيراً فدمشق كعادتها فتحت له أبواب النجاة، احتضنته بكل ما تملك، أعطته البيت والأمان وربما الحبيبة:
سقطتُ في الشارع المهجور منكسراً
فيا دمشق ألا تهدين لي قمراً؟
فكم أتيتُ أنا صيفاً إلى بردى
والآه في وتري كم أطلعت صورا
علمتني المشي أو أصبحت لي نظري
وها أنا ضائعٌ لولاكِ لست أرى
لم يبق لي بلدٌ يا شامُ يا بلدي
كطائر لم يجد عُشّاً ولا ثمرا
داس الغزاة على قلبي وأوردتي
فلتعطني رملة أو تعطني حجراً
أو تعطني شامة في وجه شاميةٍ
أو تعطني تغلباً أو تعطني مُضرا.
يهدي شهاب قصيدة «أشتري أرغفة من مخبز الحرية» إلى الفنان أحمد خليل، الذي كان باحثاً عن الحرية متمسكاً بمبادئه، لم يطلب يوماً مقابل هذا العمل كان إنساناً شريفاً لم تخضعه المغريات، عاش فقيراً بحرية مطلقة:
منذ زمن صاحبي تزوّج الألوان
والمهر كان نخلة وخيمة
ونجمة راحلة في أدمع الكمان
بنى له بيتاً من القصب
ثم اشترى أرغفة من مخبز الحرية
وقطة تمر من شارع الحرية
فأحمد كان ولم يزل
قصيدة محفورة في شارع الحرية
يا أحمد المسكون بالطفولة
سنلتقي «رنوار»
ذلك الذي تحبه «رنوار»
وتمزج الألوان
وتتقن التظليل.
يولي شهاب اهتماماً كبيراً لسورية التي احتضنته وفي هذه القصيدة «أعطني قاسيون منك ترابا»، يناجيها في كل تفاصيلها بحرها ونهرها وجبلها أن تبقى هكذا تصفح عن المخطئين وتحتضن المظلومين:
يا ضفافاً على الفرات أسكنيني
واغسليني فقد سئمت الصحارى
رغبتي أحمل المياه وأمضي
فوق جفني وأحمل الأنهارا
آه يا شامٌ فاقبلي العذر واعفي
طبعك الحرُّ يقبل الأعذارا
اعطني قاسيون منك تراباً
فثرى الشام يحفظ الاعمارا
اعطني اعطني هواء نقياً
فهنا الريح تمطر استعمارا
يا دمشق التي أضاءت عيوني
من سنينٍ لا تطفئني الأنوارا
آه من شامك التي سكنتنا
فظننا طرطوسها سنجارا
وحسبنا(جيكور) مئذنة الشحم
حسبنا(بدراً) يحاكي نزارا.
يحاكي الحب في «سريالية» وحالة الشوق تغدو واضحة عليه فهو متمسك بكل التفاصيل التي تجعله يعيش حالة الحب من دون نهاية:
سحبت صمتك والنعاس تفتقت أغصانهُ
لأساور تغفو بقربي هامسة
ليد ستطفئ شمعة كي يختفي طيران في ضفة السرير
لجداول العطر التي تشبعت في غرفتي
أرمي زماني كله كي أرتدي هذا العبير
من أين تأتي نجمة كي ترتمي قرب المرايا مذهلة
هل أنت أيضاً مذهلة
هل ناي عطري موجعٌ هذا المساء
سنة مضت وأنا هنا
في غرفتي تبكي عصافيرُ المساء
هذي ذراعي نغمةٌ فلترقدي
يستعرض شهاب في قصيدة «مدينة» ذكرياته القديمة طفولته التي مرّت ويتساءل هل عاش يوماً جميلاّ فرحاً فيها، هل أكل من خيرها أو كانت مسكونة بالغزاة:
هل كان لي وطنٌ فيها وأفراح
هل كان لي قمرٌ هل كان لي بيتُ
حملت صورتها والقلبُ منكسرٌ
والدرب تزحمه الأحزان والصمت
هي التي رحلت أنغام أغنيةٍ
هي التي تشدو
هي التي ههنا تبكي وترتاحُ
هل كان لي شجرٌ وتفاحُ
يناجي شهاب في «قصيدة حلب» هذه المدينة الساحرة التي جاء إليها منهكاً مثقلاً بالهموم، حلب التي لها مكانة خاصة في قلبه ففي كل جزء تركت عنده ولّهاً وعشقاً صوفياً، حتى موسيقاها الجميلة وحلوياتها التي لا تنسى:
حلب نعناع بريٌّ
ينمو في بستان يديك
وأنا قبل يديك عثرت ألوف المرات
غابات الموصل عرتني عشر سنين
وحمام «النبي يونس» جرحني عشر سنين
وأتيت إلى حلب طيراً يبحث عن عشّ
ظمآناً يبحث عن ماء
وضياعاً يبحث عن أي يقين
آه لو أقدر أن أبكي
لو أمسك أثوابك يا أجمل ريحانة
يا أجمل موسيقا تعزفها حلب
بين عيوني و(شارع بارون) زمن ورديّ
ومشاوير كثيرة
ومقاهٍ ودروب تفتح في الحال
ونوافير تمطر حبّاتٍ من هال
وعلى يدك اليسرى نام هلالٌ
وعلى يدك اليمنى نام هلال
حلب سيدة تجلس فوق الرمل
حلب جاءت من مدن الحلم الأولى
حلب تضحك في الليل وتهدي للأضياف الحلوى
أو بشري زمان ورديّ سوف يجيء
آه سيدتي وجهك هذا الحلبيّ طوال الليل يضيء

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن