قضايا وآراء

مع الدولة السورية

د. ناديا خوست : 

كشفت الوثائق السرية الأميركية التي أفرج عنها بقرار قضائي، ووثائق سنودن، والمعلومات التي نشرتها واشنطن بوست، أن الإدارة الأميركية أسست إمارة داعش(1). وهي التي تدير الحرب بالعصابات التكفيرية(2). الوثيقة بليغة لأنها اعتراف بجريمة. ولأنها تبين أن الخراب والقتل الوحشي استراتيجية سياسية. لكن الإشارات إليها سبقتها. في سنة 1982 نشرت المنظمة الصهيونية في كيفونيم استراتيجية إسرائيل القادمة: تفكيك البلاد العربية إلى دوائر اثنية ومذهبية، وكسر جيشي العراق وسورية لتنفيذ التفكيك. ونشر المستشرق الصهيوني برنار لويس نظريته عن الحرب السنّية-الشيعية ضرورة إعادة الاستعمار الغربي ليحكم الدول الإسلامية(3). ووضع هنتنغتون صراع الحضارات بدلاً من الصراع الاقتصادي-السياسي(4). ورأى بريجنسكي ضرورة تحطيم السيادة الوطنية: أصبحت الشركات متعددة الجنسية، لا الدولة القومية، هي التي تبني الحضارة. صاغت هذه الرؤية السياسة الأميركية. في سياقها يقع قانون محاسبة سورية، وغزو العراق، واغتيال الحريري، والقرار 1559، وثورة الأرز، والثورات البرتقالية العربية، وتنظيم العصابات التكفيرية، والاتفاق مع الإخوان المسلمين لتسليمهم السلطة، وحلف «الحرب على الإرهاب» من دول تدرب وتسلح وتمول العصابات الإرهابية. في التفاصيل العملية: حروب التقسيم في المنطقة، صياغة بريمر دستور العراق، رمي الطائرات الأميركية أسلحة لداعش، وحماية ممراتها. عبور مئات السيارات المحملة بالمسلحين بأمان تحت سماء مكشوفة، وعبور ناقلات النفط المهرب إلى تركيا. تضع الوثائق المنشورة تلك التفاصيل في مكانها في خريطة استراتيجية، وتكشف التزوير الإعلامي الذي يوهم بأن الولايات المتحدة تحارب الإرهاب.

مع الدولة السورية
تجسد هذه الاستراتيجية الاندفاع إلى السيادة على العالم بحيازة منابع الطاقة وممراتها. لكننا يجب أن نتحرر من تصورٍ أوهمنا بأن الأمة قطعة متجانسة لا يتمايز فيها الملوك عن الشعوب. لا يستوقفنا فقط تعهد عبد العزيز السعودي بألا يخرج عن طاعة بريطانيا حتى قيام الساعة(5)، وبأنه يتبرع بفلسطين لليهود المساكين، بل رسالة الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون التي يطلب فيها احتلال جزء من مصر وجزء من سورية لتنشغلا بالاحتلال الإسرائيلي عن الوحدة العربية(6). بني على هذا الأساس اللاوطني تنظيم عصابات تكفيرية مرتزقة تنفذ خريطة تفكيك الدولة القومية والنسيج الوطني الذي حاك خيوطه التنوع الحضاري. وتكلل باللقاء العلني السعودي-الإسرائيلي.
لكن سورية ليست إمارة رسمها همفر أو فيلبي. سورية ابنة حضارات قديمة، فيها أول دولة عربية في التاريخ، وأول دولة عربية في التاريخ الحديث. وهي قلب القومية العربية الذي تحن إليه أطرافها المقصوصة بسايكس بيكو. سورية ليست خريطة بل حياة وأصالة وطموح ومسؤولية قومية وإنسانية. لذلك يسند شعبها الجيش. يردد أهل القرى: «الله محيي الجيش»! لأنه يدافع عن وحدة البلاد، وسيادة الدولة، والأمن الوطني. ويواجه أوباش العالم ومجرميه وأشراره: السياسيين الغربيين الكذابين، والأجهزة الدولية التي تدير غرف العمليات، والأنظمة الغربية التي رسمت مزقاً مذهبية وإثنية مكان الأمة العربية، وإمارات الرمال الوهابية الحقودة على التنوع الحضاري السوري، والحالمين بخلافة بدوية، والصهيونيين الذين يرسمون معازل تتوهم أنها دول مستقلة(7).
من يجهل اليوم أن خريطة المذابح والفظائع والغزوات تطابق خريطة المعازل الدينية والعرقية؟ لايرانا الغرب الاستعماري العنصري شعباً ذا لغة وتاريخ وذاكرة وإرث، بل يسمينا: شيعة، سنة، أكراداً، تركماناً، شركساً، أرمناً.. منذ الانتداب على سورية في بداية القرن العشرين، إلى دستور بريمر للعراق في القرن الواحد والعشرين! أمس قال ساركوزي: يجب أن نعلّم اليونان الحياة! ابن المهاجر الهنغاري واليهودية السالونيكية يعلم الشعب اليوناني العريق الحياة! ويكرر أوباما أن الشعب الأميركي استثنائي! استثنائي؟ وهذه البلاد التي أفلت عليها التكفيريين ورسم لهم فيها أمارة سلفية، ليست استثنائية، وجينات المجرمين الذين قتلوا ملايين الهنود الحمر أفضل من جيناتنا؟!
مر تفكيك سورية بكلمات بسيطة في الوثائق. ولكن أية جرائم ارتكبت لتنفيذها؟ هل نسينا الصوت الذي يطلب أن يقصوا له ذراع شهيد، ورمي المذبوحين في العاصي، وآكل القلوب؟ وقتل ألف عراقي في قاعدة سبايكر ورميهم في الفرات؟ لم يعرف التاريخ مثل هذه العصابات التكفيرية التي يسميها الغرب مرة ثواراً محررين ومرة معتدلين. ويزودها بمنجزات الإخراج المسرحي لإظهار المجرمين عمالقة: رتل من السيارات عليها أقفاص، وفي الأقفاص أسرى بملابس برتقالية. عرضٌ فني عسكري، يستهين بالكرامة الإنسانية! ابتكار رعب لا سابق لمثله يدين انحطاط رعاته الغربيين! يعلّم الخبراء الأميركيون حتى الذبح بإخراج فني جمالي! هل بقي منجز من منجزات التكنولوجيا لم يستخدم في الشر؟! في لقاء تلفزيوني قدم الجولاني نظرية استباحة الدم، بإخراج فني! لكن الديكور الخليجي «الشرشوح» لم يهب المجرم أصالة، بل ثبت بتكفير المذهب الآخر غربته عن أرض الحضارة! أولئك هم المجرمون الذين تستخدمهم الإدارة الأميركية لتفكيك سورية!

التنوع الحضاري السوري
بعد المذابح والتهجير والسبي والنهب يصعب أن نجد مواطناً سورية في الهامش. يعبر عن ذلك بسطاء الناس ببلاغة. مصيرنا، كرامتنا، معلقة بالدولة السورية. لذلك نحتفي بكل انتصار يسجله الجيش، ونكمد في كل انسحاب يضطر إليه. ربما يزيد جهلنا الاستراتيجية التي ترى خريطة الدفاع كلها، قلقنا عليه. لكن ذلك يعني شعورنا بأنه يدافع عن الدولة السورية. ويعني حناننا لأننا نفهم أنه يواجه عصابات دولية متجددة. ويزيد ذلك في ضيقنا بوضع المدني الذي يفتقد استنفاراً شاملاً لمواجهة حرب وحشية. ونفورنا ممن يتصور أننا نحتاج إلى تسلية بمسلسل تافه، أو مذيعة تنثر البسمات. نصرخ: عقل لا يفهم عواطف الناس! نحن في قلب الحرب. نحن في جسر الشغور، وتدمر، وفي جبل السماق، وفي السويداء وفي حضر. ونحن في القلمون وفي البارة. في كل مكان يدافع فيه الجيش عن الدولة السورية. قلوبنا على الناس والأرض وعلى كنوز الحضارة. لم تعد «الثورة البرتقالية» مدثرة بألوان الحرية والتعددية! أزاحت العصابات الواجهة المدنية ورفعت راياتها السوداء. ولم تعد الجرائم ترتكب في السر ليتّهم الجيش. أصبحت عروضاً بإخراج فني وصخب، تخلط روما القديمة وإعدام الوطنيين في الساحات أيام الاستعمار، وفظائع تيمورلنك، وتضيف تجديداً لا سابق له. تفرض هذه الديكتاتورية الوحشية فكراً واحداً وملابس واحدة، بالسيف! ونحن نواجهها! نحن دروز حيث تهاجم العصابات الدروز، ومسيحيون حيث تهاجم المسيحيين، وعلويون حيث تهاجم العلويين، وايزيديون حيث يفتك الوحوش بهم. وخلال ذلك نعرف أننا محظوظون بالتنوع الحضاري. نحن إذن التعددية قبل أن يدعو إليها الغربيون، وهم اللون الواحد الذي يدّعون أنهم يرفضونه! وتشهد «رحلة نيقولا السيوفي سنة 1873» على ذلك النسيج الملون!

من عدو جنبلاط؟
ماذا يقصد جنبلاط، إذن، بالهجوم على «النظام السوري» في هذه اللحظة، والسويداء تواجه العصابات التكفيرية، بعد مذبحة جبل السماق؟ لنتذكر لقاء جنبلاط في مركز سابان الصهيوني، ولنعد إلى النصّ(7). قدم الصهيوني مارتن إنديك جنبلاط. ذكّره بأنه هاجم السياسة الأميركية. اعتذر جنبلاط. قال: «ذلك صار من الماضي»… «أتيت إلى الولايات المتحدة لأطلب مساعدتها على الديكتاتورية السورية». اعترف بأنه احتاج إلى 28 سنة كي يصل إلى شجاعة أبيه كمال جنبلاط، كي يرفض «السجن السوري الكبير». غابت عن ذاكرته المؤامرات والأحلاف التي عانى العرب منها في تلك العقود، فرأى أن السياسة الأميركية دعمت طوال ستين سنة الديكتاتوريين باسم الاستقرار، وتفاءل لأن كونداليزا رايس قالت إن تلك السياسة انتهت. ذكر إنديك أن أمرين استوقفاه في القرار 1559 هما: إخراج الجيش السوري من لبنان، ونزع سلاح حزب الله. أجاب جنبلاط بأن الولايات المتحدة وأوروبا وخاصة فرنسا تلعب دوراً في إخراج الجيش السوري. «أما حزب اللـه فنقول له، قمت بعملك والآن نريد أن نرسل الجيش إلى الجنوب». مزارع شبعا حجّة. «إذا أزحتم هذه الحجة تضعونهم في موقف الدفاع، ما لم يتبعوا جدول أعمال أجنبي آخر». وطلب جنبلاط حصار سورية ديبلوماسياً واقتصادياً. حضر الاجتماع عمار عبد الحميد، المعارض السوري المرتبط بمركز سابان الصهيوني. سأل جنبلاط أسئلة مبرمجة: «هل أنت على اتصال بعبد الحليم خدام؟ هل تظن أن انشقاقه يضعف النظام؟ هل يستطيع خدام أن يؤلف حكومة في المنفى؟ هل يشكل خدام الآن تحدياً حقيقياً للنظام»؟ أجاب جنبلاط بأنه التقى بخدام في باريس في طريقه إلى واشنطن. «طبعاً شهادته أمام لجنة التحقيق الدولية (لجنة ميليس) عن اغتيال الحريري مهمة جداً. لو كان علي النصح لقلت أفيدوا من انشقاق خدام لأجل فترة انتقالية في الحكم في سورية».
جرى اللقاء في 6 آذار سنة 2006 أي قبيل عدوان تموز على لبنان. فهل كان نزع سلاح حزب اللـه ودفع الجيش إلى الجنوب غباء سياسياً، أم كان لفتح لبنان لإسرائيل؟!
تشبه تلك اللحظة الدقيقة التي سبقت حرب تموز على لبنان، هذه اللحظة الدقيقة والسويداء وحضر وجبل العرب تواجه عصابات التكفير وغرفة عمليات موك التي تجمع ضباطاً أميركيين وغربيين وخليجيين وإسرائيليين. يتقدم جنبلاط، أيضاً، مقاتلاً الجيش السوري وأحفاد سلطان باشا الأطرش، صاحب راية: الدين لله والوطن للجميع! هل يقال فقط: ياللعار؟! أم جنبلاط ميزان حرارة حساس يرتفع ويهبط وفق الأجواء؟
يجري جنبلاط في نهج. كتب سيمور هيرش في سنة 2005: أخبرني جنبلاط، أنه التقى بتشيني، نائب الرئيس، في واشنطن لمناقشة إضعاف الأسد. وقال إنه وزملاءه نصحوا تشيني بأنه إذا ما أرادت الولايات المتحدة التحرك ضد سورية، فإن أعضاء الإخوان المسلمين السوريين سيكونون الطرف «الذي يجب التحدث معه». وقال جنبلاط: «قلنا لتشيني أن أساس العلاقات بين إيران ولبنان هو سورية، ولإضعاف إيران تحتاج لفتح باب لتفعيل المعارضة السورية». نصح تشيني، إذن، بدعم التكفيريين الذين ذبحوا أهل جبل السماق وحاصروا السويداء وحضر!
نهجه إذن: إضعاف سورية، تفكيكها! لذلك طلب من أهل السويداء أن يتركوا النظام السوري والجيش السوري وهم يواجهون العصابات التي ذبحت مواطنيهم وأشقاءهم! وكانت الشهامة، على الأقل، تفترض أن نقويهم في مواجهة القتلة المتوحشين! وكان العقل السياسي السليم يفترض أن يفهم أن سلخ أي مكون من مكونات النسيج السوري يقتلعه من جذوره التي صاغتها الحضارات القديمة والاستمرار التاريخي! ماذا يبقى للأكراد إذا سلخ من تاريخهم صلاح الدين الأيوبي، وماذا يبقى للدروز إذا سلخوا عن بطولاتهم في الثورة السورية وحرب تشرين، وماذا يبقى للشركس إذا فقدوا كتيبة المغاوير في الجولان وأنزور في تل العزيزيات؟! هل يتجمع الأوروبيون المختلفون تاريخاً ولغة وبينهم دماء الحروب، ويتفرق من جمعتهم الحضارات واللغة والوجدان والذاكرة والخطر؟

الحقيقة الساطعة
لا نحتاج بعد أربع سنوات من الحرب الضارية من يوضح لنا أن الهدف إسقاط الدولة السورية. وأن السعودية وقطر اللتين ولدتا على يد همفر وفيلبي تحقدان على الحضارة السورية. أضيئت المساحات المعتمة والغامضة. وكشفت الحرب على سورية والعراق وقصف اليمن واللقاءات العلنية بالإسرائيليين، وظيفتهما كأداة استعمارية صهيونية. في ذلك المستنقع طفا من ينشر الحلم بكانتونات. لكن في مواجهة ذلك الشر أضاف تعلق أهل السويداء وحضر بالوطن خيوطاً من الحرير إلى النسيج الوطني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن