مؤشرات مقلقة
| حسن م. يوسف
رغم ارتباطي بخمسة مواعيد، لم أتردد في قبول الدعوة لحضور حفل تخرج الدفعة الثالثة من طلاب كلية الإعلام (دفعة الوفاء) الذي أقيم يوم الأربعاء الماضي في مدرج تشرين، كلية الصيدلة، جامعة دمشق. أعترف أنني انكمشت عندما نظرت إلى بطاقة الدعوة التي تحمل شعار الاتحاد الوطني لطلبة سورية بمشعله الشهير، وشعار جامعة دمشق بلونه التوتي الذي يرمز للتوت الشامي الفريد ويتوسطه مصباح يشع منه نور العلم والمعرفة، تعلوه الآية القرآنية «وقل رب زدني علماً»، وسر انكماشي هو أنني لحظت خطأ في نص الدعوة الذي لا يزيد على أربعين كلمة، فالبطاقة تحدد موعد بدء الحفل «في تمام الساعة الحادية عشر» (هكذا!)
صحيح أنني ما كنت لأقف عند هذا الخطأ، لو لم تكن جامعة دمشق هي الجامعة الوحيدة في العالم التي تدرس كل علومها في كل فروعها باللغة العربية. كما أنها أول جامعة حكومية في الوطن العربي، إذ تأسست نواتها الأولى (المدرسة الطبية بفرعيها الطب البشري والصيدلة) عام 1903. ثم صار اسمها الجامعة السورية عندما أضيفت إليها مدرسة الحقوق عام 1923.
أصارحكم أنني عندما أسمع السياسيين يتهمون التفاصيل بإيواء الشياطين، أشعر بالانقباض، لأن العمر الذي أمضيته على جبهة الحروف جعلني أؤمن أن الملائكة تكمن في التفاصيل أيضاً، وخلاصة العلم عندي هي أن الحضارة في حصيلتها النهائية هي مجرد مجموعة من التفاصيل.
كعادتنا، في معظم المناسبات، تزحلق موعد «تمام الحادية عشر» نصف ساعة تقريباً، أمضيناها ونحن نستمع لأزيز ونخير وشخير مريع من مكبرات الصوت. في آخر مراحل الانتظار تم تقديم عرض شرائح عن الخريجين، مع معلومات غير متناظرة عن كل منهم. صحيح أن أداء مقدمي الحفل كان تقليدياً، إلا أن النزاهة تقتضي أن نعترف أن أداءهم كان أنضج ما تضمنه الحفل.
الخطابات كلها، كانت جافة وشبه خالية من المعلومات، رحب في مستهلها كل مسؤول برفاقه المسؤولين فرداً فرداً، أستثني من ذلك كلمة الخريج الأول وكلمة ممثل اتحاد الطلبة.
بعد ذلك كرَّم المسؤولون أنفسهم وأهدوا أنفسهم الدروع بكل تؤدة، وعندما حان وقت تقديم الخريجين تسارع إيقاع تلاوة الأسماء حتى لم نعد نعرف من المنادى! فتزاحم الطلبة كما على الفرن، حتى إن بعض الأهالي لم يروا أبناءهم على المسرح في زي التخرج، في اللحظة الأهم، وهم يستلمون وثائق تخرجهم!
لا شك أن مجرد الاحتفال بالخريجين يشكل نقلة جديرة بالتحية، لكن مثل هذا الحفل المهم لا يجوز تركه لارتجال الهواة، بل يلزمه مخرج مسرحي وفنيو إضاءة وصوت من المحترفين يجرون عدة بروفات على الأجهزة وحركة الناس… الخ.
في حفل تخرج عشرات «الإعلاميين» يتوقع المرء أن يتلقى جرعة قوية من «الإبداع»، (أفلام وتحقيقات ومقالات ودراسات وبحوث وإحصاءات… الخ) لكن حتى الفيلم الذي قدم عن الحرب على وطننا جاء متواضعاً وأقرب للتجميع.
لكل ما سبق انتابني قلق متنام بعد حضور حفل تخرج الدفعة الثالثة من طلاب كلية الإعلام. صحيح أن كليات الآداب لا تخرج أدباء، وكليات الإعلام لا تخرج إعلاميين، فالدراسة تبقى عقيمة إن لم تقترن بالموهبة، لكن الموهبة من شأنها أن تضيع إذا لم تتلق التعليم المناسب، وجل ما رأيته وسمعته في ذلك الحفل ينتمي لعصر ما قبل الثورة الرقمية!
الآن لم يعد الإعلام يغطي الأحداث بل يصنعها، ودليل ذلك أن محطة (سي إن إن) أجبرت وزارة الدفاع الأميركية على تأجيل ساعة (صفر) الهجوم على العراق ستين دقيقة لأن كاميراتها لم تكن جاهزة!
لقد بات معلوماً للجميع أن الحرب على سورية كانت ولا تزال إعلامية بالدرجة الأولى، لذا تقتضي الضرورة أن تُخَرِّج كليات الإعلام في بلادنا أشخاصاً موهوبين ومؤهلين علمياً وتقنياً كي يكونوا إعلاميين أشداء، لا كتبة يبرعون في فنون الإنشاء!