ثقافة وفن

«وثيقة وطن» مباحثات وتمسك بالحقوق جعل سورية قلعة … د.بثينة شعبان: لو كان الرئيس الأسد مساوماً لكان الشرق الأوسط غير ما هو عليه في نهاية القرن العشرين

| إسماعيل مروة

الوثيقة من الأهمية بمكان، وإن كانت الأبحاث التاريخية الأصيلة، وذات الوزن النوعي قد غابت عن مكتبتنا العربية، وحضرت في مكتبات العالم الآخر، فذلك يعود إلى افتقاد الباحث والمؤرخ والمحلل الوثيقة التي يستمد منها المعلومات والأرقام ليقوم بتحليلها ودراستها، فالوثائق والإحصاءات تعطي أبعاداً علمية وثوقية للدراسات، وتبعدها عن الإنشاء، وعن الميل ميلاً تاماً مع الهوى والرغبة، وإن كان بعض الكتاب قادراً على ليّ عنق الحقيقة، فإنه في غياب الوثيقة والإحصاء والمراسلات يصبح قادراً على طمسها طمساً تاماً، وفي حضورها لا يستطيع فعل ذلك، ويبقى مجاله الممكن في القراءة والظن والتخمين، ومن هنا تأتي أهمية سلسلة من الكتب بدأت بالصدور تباعاً، وهي تستند إلى الوثيقة، والأستاذة الدكتورة بثينة شعبان، قدمت من قبل المرأة بالتوثيق، فكان التوثيق عندها منهجاً وحجة، ومن ثم قدمت عشر سنوات مع حافظ الأسد، واليوم تقدم كتابها المهم (وثيقة وطن- مباحثات حافظ الأسد وهنري كيسنجر) الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة السورية.

الوثيقة والتاريخ

في مفاصل التاريخ دوماً تساؤل وشك، وانتقل هذا الشك إلى الإنسان العادي فصار المعلن شيئاً، والذي يجري وراء الأبواب المغلقة شيئاً آخر، خاصة بعد انتشار ما يسمى المقررات العلنية والمقررات السرية لمؤتمرات وملتقيات قررت مصير العالم في بداية القرن العشرين، لذلك فقد الإنسان التفاعل الحار مع ما يسمع ويرى ويقرأ، وصار ينتظر الوثائق التي يفرج عنها بعد عقود من إنجازها، وبعد أن تكون مفاعيلها قد انتهت، ومن هنا تشكل الوثيقة لبنة أساسية في التحليل والقراءة والاستشراف، وكنا نرى عادة، وإلى أمد قريب أن بعض الغربيين يحصلون على وثائقهم بطرائق عديدة منها السرقة، ومنها التسريب، فيبنون مجداً وشهرة ومالاً، بينما المؤرخ والباحث العربي يبقى على الهامش، ويقوم بتقديم قراءات سطحية تعتمد ما قام به هذا الكاتب أو ذاك، فذاك يجبي، وهذا يكتفي بوضع حواشيه على ما فعل الدخيل على المكان والحدث، وغالباً ما يعمد ذاك الذي أعطي المفاتيح إلى إساءات مقصودة لتعطيه مصداقية لدى قارئه الغربي الذي يزعم أنه يتوجه إليه، ونقوم بالترجمة المحفوفة بكثير من الصعوبات.
فقد قرأنا من قبل لدنيس روس عن مفاوضات السلام التي جرت بين سورية والكيان الإسرائيلي، وكل ما جاء به كان برأي القارئ صحيحاً، لأنه محايد! ولكن القراءة الدقيقة تثبت أنه لم يكن كذلك، بل لم يستطع أن ينقل حيادية وتعاطف رئيسه، بل كان على النقيض منه، وعندما نشرت د.بثينة شعبان شيئاً عن ذلك في كتابها السابق أمكن بالموازنة ما بين الكتابين أن نصل إلى حقيقة ما جرى في شيبرد ستاون وجنيف وسواهما، وكم كان مهماً لو صدر كتاب عشر سنوات مع حافظ الأسد قبل كتاب روس. فمع أن التصويب حصل، وأمكن كشف الانحياز الفاضح في القراءة والتحليل، إلا أن الشريحة التي استهدفت تأثرت بما قرأت وصار من الصعب إجراء تعديل جذري، مع أن كل كلمة في كتاب د.شعبان تعود إلى وثيقة محفوظة ومؤرخة، علاوة على أنها كانت ضمن الفريق الذي أسهم في هذه المحادثات بفعالية… من هنا نستطيع أن نقدر أهمية الوثيقة التي تصل إلى الرأي العام، والذي يعبر عن حقيقة السياسة السورية التي لا تفعل شيئاً في الخفاء، فكم كان مهماً أن تكون الوثائق بين أيدي الناس؟!

صحوة محادثات كيسنجر
«بغية إعطاء القرّاء روايات تاريخية دقيقة ومبنية على الحقائق تساعد على الوصول إلى تفهم صحيح للأحداث والقادة والشخصيات التاريخية، إن القرّاء العرب من مختلف الأجيال ضائعون بين روايات تاريخية كتبها أولئك الذين يحاولون تبييض صفحات بعض الزعماء وإعفاءهم من مسؤولياتهم التاريخية، وتحويلهم إلى أبطال، وتشويه صورة آخرين…».
هكذا تذكر د.شعبان غايتها في مقدمة كتابها الجديد «وثيقة وطن» وقد وضعت يدها على مكمن خطير، فالمسافة التي تفصل بين ما تسرده من وثائق وزماننا تصل إلى أكثر من أربعة عقود، وقد رأينا الإعلام يضخ كماً من المعلومات خطيراً، حتى حاول الإعلام أن يحوّل الجبهة السورية في حرب تشرين التحريرية إلى عبء وإلى جبهة سلبية! أما ما كان من مباحثات هنري كيسنجر فقد أخذت تأويلات ومجريات غاية في الانحراف، خاصة مع صدور عدد من الكتب والمذكرات كانت في جملتها رؤية شخصية غير علمية إلا نادراً، ومع توسع برامج المذكرات التي تعتمد على الذاكرة، والتي يجود بها كثيرون قبل رحيلهم عن الدنيا… أفهم هذا ولم أكن لألمسه مباشرة لولا الحديث الموثق مع الجليل عبد الله الخاني الذي دلني وبالوثيقة على ما لا يمكن تصديقه عن مجريات الأيام في حرب تشرين، خاصة عندما كان موفداً من الرئيس حافظ الأسد إلى السادات، وفي أمر يسبق زيارة كيسنجر فلم يستقبل، ولم يتم الردّ على ما جاء من أجله.
هذا دار في الدوائر الرسمية التي لم يطّلع عليها القرّاء والناس عامة، وربما كان الناس تحت ضغط الإعلام وما يضخه يملكون آراء مغايرة، وذلك في إطار تبييض صفحات زعماء كما أشارت د.شعبان لذا كان من الأهمية بمكان كما ترى أن تصدر هذه الوثائق للرأي العام، فانظر إلى الرواة كيف سيتعاملون مع مجمل القضايا المثارة بعد نشر هذه الوثيقة الوثائق؟! «إن كتاب وثيقة وطن، بتقديمه أول مرة رواية دقيقة موثقة من أحداث الحقبة التاريخية التي أعقبت حرب تشرين التحريرية عام 1973، يردم فجوة مهمة في كتابة تاريخ الشرق الأوسط. لقد اعتمد تأليف الكتاب على وثائق وسجلات كان كثير من المؤرخين والمواطنين العاديين يعدون الحصول عليها مستحيلاً، أو أنها غير موجودة على الإطلاق».
وفي هذا احترام لشقين هما: الباحثون الذين ينتظرون الوثيقة، والناس العاديون الذين يجب أن ينظر إليهم بالتقدير، وفي هذا النقل إشارة مهمة، إلى أنهم يظنون الحصول عليها من الاستحالة، وبعضهم يظن أنها غير موجودة، وهذا في الحالين يدعو إلى الرجم في الغيب، والاعتماد على روايات لا تحمل تاريخاً وتوثيقاً وتوقيعاً، ولا يدرك أهمية هذه الوثيقة وخطورتها إلا الباحث عن معلومات تختلف عما قال فلان أو فلان، أو عمَّا تداوله الإعلام، خاصة ما يدور خلف الأبواب المغلقة، فكم من حكاية تروى عن تناول أو طرح أو قضية تحمل أسلوبين، أحدهما للرأي العام، والآخر خاص، وبينهما تباين كبير؟! ولعلّ إشارة المؤلفة البارعة إلى اللقاء العائلي الذي جمع الرئيس نيكسون بالرئيس حافظ الأسد خير دليل على ضرورة فتح الوثائق «قبيل أخذ الصور التذكارية، همس أحد أبناء الأسد في أذن أبيه: أليس هذا نيكسون نفسه الذي يعطي السلاح لإسرائيل؟ بدا واضحاً أن فتح صفحة جديدة في العلاقات السورية الأمريكية سيكون مهمة شاقة حتى في بيت الأسد نفسه، وهذا ما سيكتشفه نيكسون سريعاً. ولكن لم يكن هناك شيء ليعكر صفو تلك الأمسية».
أقف عند هذه القضية والملاحظة، لأن كثيرين ممن أرادوا الترويج لزعماء حاولوا أن يحكوا حكايات مختلفة، وعندما تكون التربية الأسرية في بيت الرئيس بهذه العقائدية التي لا تتقبل التغيرات بسرعة، فهذا يعني أن من زرع هذه العقيدة لن يتنازل عن حقوقه، ولن يقدم للعدو في المفاوضات ما عجز عنه في الحرب، وإذا كان كيسنجر قد اعتنى بالملف المصري، فلأنه وجد هناك أمراً آخر، وكان يعنيه أن ينجز الملف السوري، ولكن ضمن مصطلحاته التي أرادها وكررها (الانسحاب من أرض- انسحابات تالية- مؤتمرات ولقاءات- تطبيع سياسي) وغيرها من المصطلحات التي كرست بشكل واسع، لكنها لم تجد لدى الأسد الصدى نفسه الذي لقيته عند السادات الذي لم يراجع في أمر!

الرحلة الطويلة
«في الرابعة بعد الظهر بتوقيت دمشق من يوم 15 كانون الأول 1973 عقد اللقاء الأول بين الأسد وكيسنجر في دمشق» وبتمهيدات ضرورية تظهر المؤلفة ذلك التباين بين الولايات المتحدة وسورية، ويمكن أن نطلق عليه صفة التوجس، فما يحمله كيسنجر عن سورية، سيكون منطلقه في التفاوض ويجافي الحقيقة، وثمة إشارة إلى اكتشاف الأميركيين وضوح الأسد وصراحته،هذه الصراحة التي يصف الأسد بها سياسة الولايات المتحدة اعتماداً على التقارير معيبة «خلال النقاش الذي استمر ست ساعات ونصف الساعة، كان الأسد وكيسنجر يعودان دائماً للحديث عن مدى أهمية تأسيس اتصال منتظم ومباشر بينهما بعيداً عن وسائل الإعلام والوسطاء. وكانت دهشة كيسنجر واضحة من مدى صراحة الأسد واستعداده للمشاركة وأشار كيسنجر إلى أن التقارير الأميركية جميعها تؤكد أن سورية كانت طرفا يستحيل التفاوض معه، ومن الواضح أن هذا مبني على معلومات استخباراتية خاطئة. ولدى سماع الأسد ذلك التعليق لم تكد دهشته أقل من دهشة كيسنجر، وبأسلوب مهذب أشار إلى أنه إن كانت السياسة الأميركية تجاه سورية سياسة معادية بسبب تقارير استخباراتية (معيبة) فإن المسؤول بالدرجة الأولى عن الصدع القائم في العلاقات هي الولايات المتحدة الأميركية» هذه النقطة غاية في القيمة والأهمية، لأنها تشكل منطلق أي علاقات وأي محادثات، ويظهر الخلاف في المنطلق بين سورية والولايات المتحدة، وبين الأسد وكيسنجر، فالأسد وضوح ومباشرة واستعداد للنقاش، وكيسنجر رؤية مسبقة، واعتماد على تقارير استخباراتية معيبة، تجعل الرؤية المسبقة متحكمة في منطلق المحادثات وسيرورتها… هذه النقاط من الضرورة أن نقف عندها، فهي أعلى قيمة من المحادثات ومقرراتها، لأن تلك الخطوات نتائج، والنتائج مرتبطة بالمنطلقات… وما دار بين الأسد وأسرته عند لقاء نيكسون، وما دار بين الأسد وكيسنجر يعطي فكرة كاملة عن منطلقات الأسد في أي عملية عسكرية أو سياسية أو تفاوضية، وربما أعطتنا هذه المنطلقات الأسباب الحقيقية لإخفاق الجولات المكوكية لهنري كيسنجر، ومن ثم إخفاق كل محادثات السلام التي كانت سورية طرفاً فيها، لأن سورية تعتمد ببساطة ووضوح على النقاش لا على التقارير الاستخباراتية، وتنطلق من مصلحة سورية وقناعاتها السياسية والتاريخية بحقوقها من دون أن تبدل بهذه القناعات تحت ضغط أو ظرف، أو لتقنع العالم بأنها غير ما تقول التقارير الاستخباراتية التي تحمل إيحاءات بعيدة قد تكون كارثية.

التفاوض والحافة
التفاوض ليس غاية، وليس بروتوكولياً لإنجاز أشياء متفق عليها قبل الجلوس للحوار، التفاوض عند الأسد لغاية الاتفاق على الحقوق، وهو ما وصفه كيسنجر، ومبثت في محاضر اجتماعات الأسد به… «كان أداءً مذهلاً، لقد ذهب الأسد حتى الميليمتر الأخير، ثم فتح المجال أمام مجهود آخر حاسم لتحقيق الاتفاق. لقد قلت له في كانون الأول إنه يذكرني بشخص يفاوض على حافة الهاوية، ولكي يعزز موقفه التفاوضي قام بالقفز إلى المجهول آملاً أن شيئاً ما في طريقه إلى الأسفل سيخفف من وقع سقوطه. ذاك الشيء في تلك اللحظة هو الآن أنا» فالمرتكزات في التفاوض هي الأهم عند الرئيس الأسد، والدخول في التفاصيل ضرورة، وعدم الركون إلى أقوال كيسنجر «لقد اتفقنا على كل شيء لن يكون هناك المزيد من المفاوضات»!
هذا ما قاله كيسنجر ظاناً أن الأمور انتهت، ولكن النقاط الخلافية لم يتنازل الأسد عنها وعن مناقشتها للوصول إلى وضوح تام لا لبس فيه، ولو تعامل الأسد بغير هذه الطريقة لكان الاتفاق منجزاً قبل أي اتفاق آخر، أما الأسد، فأمامه أمران لا يتنازل عنهما على الرغم من الظروف المحيطة كما تذكر المؤلفة، ويعرف القارئ:
– آمن الأسد إيماناً عميقاً أن الطريقة الوحيدة للحصول على اتفاق جيد هي أن يتوحد العرب، وبخاصة سورية ومصر في جهة تفاوضية واحدة. وقد أمضى الأسد سنوات في محاولة إقناع القادة العرب أن يعملوا معاً بصدق.
– عدم ترك أي نقطة خلافية للأيام القادمة «تمحورت إحدى نقاط الخلاف حول صلاحيات المراقبين الأمميين الذين سيتمركزون في المنطقة العازلة المحددة بالخطين الأزرق والأحمر، ثم إن اسم قوة المراقبة التي ستنشأ هو في حد ذاته اختراع أملته التناقضات السورية- الإسرائيلية… قال كيسنجر مازحاً: بهذا نكون قد أنجزنا إنجازاً تاريخياً، فخلال ستة آلاف سنة من تاريخ الحضارة البشرية لم يكن هناك شيء أو منظمة اسمها أندوف».
أما الأمر الأول فقد كان متعذراً، وكشفت الوثائق أن الأطراف العربية تنازلت عن اتحاد المسارات في الجانب التفاوضي، بل عقد اتفاقات تنازلت فيها كثيراً للتملص من وحدة المسارات، ليحاول كل طرف أن يقدم واجباته لأميركا، وأما الثاني فلم تجد كل المحاولات والإغراءات والتصريحات في جعل الأسد أقل صلابة في التسميات والخطوط والميلمترات، بل في مهام القوة الأممية المشكلة أندوف، أو في مهام القوى الجوية الأميركية التي ستراقب المنطقة، بل امتد الخلاف إلى المنطقة والسلاح ونزعه والصلاحيات، والقراءة المتمعنة تعيد الاعتبار للتمسك بالحق بصلابة.

ثوابت التفاوض والمراوغة
عند العودة إلى الكتاب الوثيقة، أو إلى الوثائق المنثورة في الكتاب نجد أن التفاصيل كثيرة ودقيقة، ويصعب الوقوف عندها في العرض، ولابد من العودة إلى الكتاب للباحث الذي يؤسس لدراسة تلك المرحلة ولكن ما يجب أن نطلع عليه هو أن ثوابت السياسة السورية في التفاوض لا تتغير، فمع طرح كيسنجر لفكرة أن السوريين يستحيل التفاوض معهم، وبيان أن السوريين يفاوضون ويرغبون في السلام بدأت المراوغات الأميركية لتفريغ التفاوض من محتواه، ولحرفه عن مساره ليكون في مصلحة إسرائيل كما لو أنها هي من يضع الشروط والنتائج، وتثبت الوثائق أنه عند كل نقطة يمكن للأميركيين أن يراوغوا للوصول إلى ما تريده إسرائيل… وهنا تعرض د. شعبان الوثائق وفق تسلسلها التاريخي واللحظي، فبعد أن توضع خطوط عريضة لقضية جغرافية تتعلق بالانسحاب تبدأ خطوة جديدة من كيسنجر مهندس الخطوة خطوة، وتؤكد بالوثيقة أن طريقة كيسنجر هي التي كانت تخفي ما يتم بينه وبين الإسرائيليين محاولاً كسب أشياء لهم فوق ما يوافقون عليه «حصل على موافقة الوزارة الإسرائيلية على هذه التغييرات عينها في اليوم السابق، ولكنه قام بإخفائها عن الأسد في الجلسة التفاوضية مساء ذلك اليوم، لقد قطع هنري كيسنجر المسافة، وذهب إلى حافة الهاوية أيضاً… سأل الوزير الأميركي إن كان بوسع الولايات المتحدة الأميركية إصدار بيان تؤكد تفسيرها وقف إطلاق النار في مرتفعات الجولان على أنه يشمل نشاطات الفدائيين الفلسطينيين، وأن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها ضد هجماتهم، لم يعترض الأسد لأن هذا كان رأياً أميركياً، وليس اتفاقاً ملزماً يفرض على سورية أي التزامات».
هذا النص يظهر الطريقة التفاوضية للرئيس الأسد، والقدرة على تفسير القضايا التي لا تتعارض مع ثوابت الحقوق العربية والسورية، بينما كان همّ كيسنجر الإعلان عن قضايا والقفز إلى نقاط أخرى، وهو يرى أن الأمر انتهى في مناقشة قضية خلافية.
وبعد متابعة حثيثة للمفاوضات تنهي د. شعبان الحديث بخلاصة يعرفها الجميع تظهر فشل هذه المفاوضات المكوكية، ولكن الكثيرين لا يقفون عند الأسباب الحقيقية لإخفاقها، وهذه الخلاصة تربط فيها د. شعبان بين المفاوضات من أجل السلام، والمفاوضات على لبنان خلال وقوع الحرب الأهلية اللبنانية بالتزامن مع وجود كيسنجر وزيراً للخارجية، وخلال زياراته لدمشق «تظهر سجلات أرشيف رئاسة الجمهورية العربية السورية، التي تعود إلى مطلع 1976، أن عروض المفاوضات الفارغة من أي محتوى، والتي لم تكن غايتها إلا إضاعة الوقت، إضافة إلى النقاشات الجادة حول عملية السلام، قد بدأت تتلاشى من وسائل كيسنجر إلى الأسد، ومن لقاءات الأسد والسفير مورفي، إذ غدت الحرب الأهلية المشتعلة في لبنان تدريجياً محور النقاش الوحيد بين سورية والولايات المتحدة» هل كان اللعب بالوقت من فراغ؟ وهل تحول الاهتمام إلى لبنان كان عفوياً؟ كل ذلك ترافق مع السلام مع مصر وسقوط سايغون!

لماذا لبنان؟
في مقدمة الكتاب وثيقة وطن تشير د. شعبان إلى وجود فصل عن لبنان والعلاقة معه، والوجود السوري في لبنان، وقراءة الكتاب تظهر أن هذا الفصل من صلب الكتاب، ومن ضروراته حتى يكتمل، وخاصة أن كثيرين من الباحثين لا يعرفون جوهر الصراع آنذاك في لبنان، وبعضهم يبرئ الولايات المتحدة مما جرى، وبعضهم يرى أن الولايات المتحدة كانت مع لبنان! وأن موقفها المعلن هو نفسه المضمر! وإن كان الأمر كذلك، فبم نفسر الانتقال الذكي الذي أرادته المؤلفة بقولها: صار الموضوع اللبناني محور أي نقاش أو لقاء أو مراسلة بين سورية والولايات المتحدة؟!
تقدم د. شعبان عرضاً علمياً ومنطقياً لما جرى في لبنان، وللأحداث التي اندلعت، وللقاءات التي جرت في رئاسة الجمهورية بمبادرات من الرئيس الأسد لاحتواء الأزمة المندلعة، على الرغم من إيمانه وقناعاته بالشخصيات، وعرضت لكل ما تمّ لإعاقة أي تقدم أو حوار أو حل بسبب تمسك الميليشيات بقناعاتها، وبالمحاور التي ارتبطت بها، سواء في المحيط العربي، أم مع الكيان الصهيوني، ومن خلال هذا العرض والمشاورات عرضت لآراء كيسنجر نفسه وإدارته الأميركية، وهذه الوثائق تكشف حقيقة الغاية الأميركية، وهي مصلحة إسرائيل التي لم تغب عن المباحثات، ولم تغب عن الملف اللبناني، وعلى المعنيين أن يقرؤوا بتمعن ما قاله كيسنجر عن الوضع اللبناني عند تأزمه «مع تدهور الوضع في لبنان، قرع ناقوس الخطر في واشنطن، أيقن كيسنجر أن الأسد لا يستطيع أن يقف متفرجاً ولبنان ينهار على هذا النحو، وأنه لم تبق خيارات أمام سورية سوى القيام بتحرك عسكري لإعادة الاستقرار قبل البدء بتطبيق أي حل سياسي، قال الوزير الأميركي لموظفيه بكل صراحة: في الحقيقة إن الأسد على حق، لو لم نكن حكومة من الدرجة الثانية لقلنا له أن يدخل إلى هناك بسرعة وينهي المهمة، لكن هذا المكان مملوء بالفئران»، هكذا يرى كيسنجر وبالتالي الولايات المتحدة الحليف في لبنان، ويخطئ من يظن أن الولايات المتحدة كانت خصماً لموقف الرئيس الأسد «في ذاك اليوم نفسه، توجه مورفي إلى قصر الروضة للقاء الرئيس مرة ثانية، وهناك نقل إليه تقدير الرئيس فورد للطريقة المسؤولة التي تعاملت بها سورية مع الوضع في لبنان خلال الأشهر الماضية» وأمام التهديدات الإسرائيلية للوجود السوري في لبنان تنقل المؤلفة من خط الرئيس الأسد رواسم الوجود السوري في لبنان:
«- إن سورية ترى ما ورد في الرسالة يشكل إنذاراً وهي ترفض هذا الإنذار رفضاً قاطعاً.
– إن سورية ليست مستعدة الآن، ولن تكون مستعدة في المستقبل لقبول أي إنذار، من أي جهة في العالم.
– إن ما يحدث في لبنان شأن عربي داخلي، والعرب فقط هم أصحاب الاختصاص في معالجة هذا الشأن.
– إن الاعتبار الوحيد الذي حدد ويحدد الآن وفي المستقبل أبعاد التدخل السوري في لبنان، بما في ذلك حجم القوات السورية ومواقعها، هو مصلحة شعب لبنان، لأن تاريخنا واحد، ومستقبلنا واحد، ومصيرنا واحد».
كل ما جاء في الكتاب الوثيقة يؤكد أبعاد السياسة السورية وثوابتها، وربما أجاب عن بعض التساؤلات التي تتعلق بما يحدث في سورية الآن من هجمة أممية عليها بسبب هذه المواقف، ومن هنا تأتي أهمية الخاتمة التي أوردتها الدكتورة شعبان بعد الغوص طويلاً في الوثائق والسجلات، وفيها إشارة ذكية إلى ما هو كائن، وإلى ما كان سيكون لو كانت الأمور مختلفة «ماذا لو كان حافظ الأسد مساوماً كما السادات؟ الجواب عن هذا السؤال ليس بمعقد: لو كان الأسد مساوماً، لرأينا الشرق الأوسط مختلفاً كثيراً عما كان عليه في نهاية القرن العشرين».
السياسة السورية الثابتة كانت وراء التمسك بالأرض والحقوق، وستبقى كذلك، ولن يغير منها طارئ يحدث أو مؤامرة تحاك، والوثائق تنقل صحة المواقف ومبدئيتها.
«وثيقة وطن» كتاب أكثر من مهم، وأكثر من أرشيفي، وخاصة في هذه المرحلة العصيبة من حياة الأمة وسورية خاصة، ويحسن أن تكون هذه الوثائق بين أيدي الباحثين والقراء لمعرفة آليات المباحثات، والغايات الأساسية التي تقف وراء أي طرح أميركي، الغاية إسرائيل التي وصفها كيسنجر بأنها لا تطلع أميركا على أي شيء!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن