ثقافة وفن

تأثر بأصوات المؤذنين العرب ونهل منها … التينور اللبناني غابرييل عبد النور لـ«الوطن»: أشعر بأن حلب تناديني.. وهذا أمر لا يمكنني تفسيره

| سوسن صيداوي

من بين اللغات العشر التي يغنيها.. الروح متعانقة بين حرف الضاد وصوته الذي ألف اللغة العربية وصفاها كي تكون الأجمل عبر صوته وغنائه، غابرييل عبد النور اللبناني الملقب بالتينور «أعلى الأصوات الغنائية الرجولية في المجال الوسطي» يجول العالم بصوته الذي هو مفتاحه لأبواب القلوب والدخول مستقراً بسكينة في أحضان المحبة، يتنقّل بين المدن حاملاً وطنه لبنان في قلبه أينما ذهب، مرة وأثناء ترحاله كان في سورية التي يعتبرها وطنه الثاني، وفيها مصادفة القدر اقتنصته وجعلته ينصاع لوهج عشق، حتى اليوم من الصعب عليه أن يفسّر سببه، تلك الزيارة تبعتها زيارة أخرى بعد عام، لأن حلب كانت تناديه، وحتى اليوم تناديه، على أمل أن يستطيع فك شيفرة هذا السحر الذي استحوذ عليه، لعل حرارة هذا الوهج تخف وترحم أفكاره ومشاعره. وبين ما يغنيه التينور عبد النور وما يسمعه، وبين ما يستهويه وما يستغربه.. كلام طويل نقدمه لكم من خلال حواره مع صحيفة «الوطن».

خلال نشأتك الفنية ومسيرتك بمن تأثرت سواء من حيث الموسيقا أم من حيث الغناء؟
لا أعتبر نفسي متأثراً بأحد بشكل خاص، إلا أنني مهتم كثيراً بكل ما هو فكري أو موسيقي وحتى كل ما هو متعلق بالصوت، حتى إنني أهتم بأصوات غير معروفة ولكنها جدّ مهمة منها موجودة في الجزائر والمغرب وتونس، وحتى إنني مهتم بأصوات لمؤذنين كبار من الأقطاب العربية كافة، وما أريد الإشارة إليه هنا هو أنني دائماً أحاول التعلم والاطلاع على تجارب الآخرين وعلى التقنيات الموسيقية والفنية، وبالنسبة لمن تأثرت بهم خلال نشأتي الفنية، لدي مكتبة موسيقية غنية جداً بأسماء عمالقة منهم وعلى سبيل الذكر لا الحصر: وديع الصافي، فيروز، أسمهان، أم كلثوم في بداياتها، سعاد محمد، نور الهدى، ماري جبران، زكية حمدان، نادر الأمين، إضافة إلى صوت المطربة الراحلة ربا الجمال التي برأيي هي من أعظم وأجمل الأصوات بعد أسمهان، وهي الوحيدة التي يمكن مقارنتها بأسمهان، وأيضاً من المدرسة الحلبية هناك أسماء أتابعها مثل صبري المدلل، أديب الدايخ، صباح فخري وحسن الحفار، كما أنني تأثرت بأصوات أوبرالية عالمية، وبالنتيجة رغم ما أتابعه وأتعلم منه لكنني لا أشعر بأنني أنتمي إلى مدرسة موسيقية، فلديّ خطي الخاص الذي يشبهني ولا يشبه أي مدرسة موسيقية بالغناء العربي.

هل الأسماء التي اطلعت على مسيرتها وكنت تتابعها هي من صنعت منك فناناً.. ولو لم تكن فناناً فما خيارك الثاني؟
لا أعرف إذا كانت الأسماء الكبيرة التي تابعتها هي سبب كوني فناناً، فأنا ومنذ الصغر أسمع غناء عالمياً، ويعود الفضل والتشجيع لجدتي التي تتمتع بصوت جميل جداً، وهي من علمتني كيف أغني، وعرفتني على الأصوات المهمة، من خلال تشجيعي للاستماع إلى أشرطة الكاسيت التي كانت لديها، فمن هنا بدأ حبي للموسيقا وكبر مع الوقت. وخياري الثاني لو لم أكن فناناً، لكنت عملت بالاختصاص الذي درسته، فأنا مجاز بعلم النفس من جامعة روح القدس في الكسليك بدرجة جيد جداً.

هل الأمور في حياتنا وليدة المصادفة أم نحن من نصنع أقدارنا؟
لا شك بأن للاثنين أثراً كبيراً في حياتنا، ففي بعض الأوقات تكون المصادفات قادرة على قلب كيان الإنسان وكل مخططاته، وأنا أؤمن بها وبالمقابل أؤمن بالإصرار والتخطيط لتحقيق الأهداف التي أضعها والأمر الذي يحتاج مني إلى المثابرة والاجتهاد الدائم والتمارين المستديمة والتفتيش عن أفكار جديدة لتطوير الأداء والغناء والإحساس، ومن ثم فعلى الرغم من أنني أؤمن بالمصادفات إلا أنني لا أتكل عليها من دون بذل أي جهد.

أيهما أقرب إلى الروح.. الكلمة أم اللحن.. وما طبيعة العلاقة بينهما كي تصل الأغنية إلى الجمهور ولا تموت؟
يجب أن تجمع الأغنية الكلمة واللحن هذا لأنها أغنية، ولو أنها قصيدة كنا نقول إنها تحتاج إلى الكلمة وحدها، وإذا كنا نتكلم عن التأليف الموسيقي فهنا الأهمية تكون للموسيقا واللحن بالدرجة الأولى من دون الكلمة، إذاً الأغنية تحتاج إلى الكلمة واللحن معاً وأن يضاف إليهما التوزيع الموسيقي الذي يقوم بتزيين ظهور الأغنية بالشكل الأنسب والأكمل، فهذه العناصر الثلاثة لها أهميتها في نجاح الأغنية، وباتحادها مع بعضها تخلق النجاح، والمهم أن يليق اللحن بالكلام والعكس صحيح، لأن لكل منهما تأثيره الإيجابي أو السلبي في مضمون الأغنية.

بريق النجومية لامع وسحر الشهرة مغرٍ.. لماذا أنت غير معني بالشهرة.. هل ترعبك؟
أنا غير معني بالشهرة لأن الأضواء والبهرجة الخارجية لا تعنيني، أنا معني بالمضمون أكثر، ولا تهمني فكرة أن أكون معروفاً لكل الناس لمجرد أن أكون معروفاً، طبعاً لا أنكر أهمية الشهرة وخاصة أنها تفتح آفاقاً كبيرة، فأنا يهمني أن أكون مشهوراً ومعروفاً في الإطار الذي أنا أقدمه، فأجوائي إطارها روحيّ وفكريّ وأنا أعرف أن هذا الإطار صعب ومحدود. وبالطبع فكرة الشهرة لا ترعبني لأنني فخور بحياتي وبمسيرتي، فلا شيء يرعبني لأنني تربيت في عائلة تعلمنا فيها أن نحب وطننا وكل الناس بغض النظر عن المذاهب والطوائف التي ينتمون إليها، إذاً مسيرتي سواء على الصعيد الفني أم الشخصي فخور بها ولا ترعبني أبداً، ومن ثم فحياتي الشخصية شأن خاص وما يعنيه جمهوري ما قدمه له من فن.

قلت: إنك تحمل وطنك بقلبك.. إلى أي مكان تذهب إليه.. هل الواقع العربي اليوم غيّر من مفهوم حب الأوطان؟
حبي لوطني هو شيء أساسي في حياتي الخاصة وحياتي الفنية، ولا أستطيع أن أفصل فني عن حب الوطن، فأينما أغني سواء في لبنان أم خارجها فأنا أحمل وطني بفني وبصوتي وبكياني وبأحاسيسي وحتى بنجاحاتي، لأن الوطن هو بالأساس من أعطانا المجد والفخر والفكر والعظمة والتاريخ والأبجدية، لهذا انتمائي للبنان متجذر جداً، ولا شك بعد لبنان أنا ابن سورية وأعتبرها بلدي الثاني، فسورية ولبنان إحساس واحد وأرض عظيمة وحضارة كبيرة ومهد للحضارات وللأبجدية وللجمال والطبيعة ولتعدد الطوائف والمذاهب وحب الناس لبعضها رغم المخططات المأساوية والجهنمية التي فُرضت بهدف تخريب طريقة عيشنا الراقية التي اعتدنا عليها على أرضنا النبيلة.

أليس أمراً معقداً أن تطوّع ما هو شرقي النغم واللحن والكلام مع ما هو غربي؟
العمل على هذا الموضوع يحتاج إلى جهد كبير ودقة عالية وانتباه شديد للمسافة الفاصلة بين الغربي والشرقي كي لا نقع في أي خلل، وهنا لابد من الذكر بأن الانفتاح على الغرب أو على الموسيقا العالمية ابتدأ مع محمد القصبجي الذي أعطى لأم كلثوم ألحاناً فيها أبعاد غير عادية مثل أغنية «ياما ناديت من أسايا» وأغنية «سكت والدمع اتكلم»، فهذه الأغاني فيها انفتاح أكثر للعالمية رغم أنها في صلب الموسيقا الكلاسيكية العربية، وهذا ما تمّ عمله في أغنية «يا طيور» لأسمهان التي ولليوم لم يأت صوت استطاع أن يضاهي صوت أسمهان بقدرته على الجمع بين الشرقي والغربي، إضافة للكثير من الأعمال لمحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأيضاً فيروز، فهذا الانفتاح موجود في الأغنية العربية، وهو ليس بأمر هجين أو غريب علينا، ولكن ما أجده أمراً هجيناً هو أن نغني التقنية الغربية على الكلام العربي، هنا بدأ التشويه، فأنا لا أؤمن أن تُغنى الأوبرا باللغة العربية، فهذا بعيد عما تعودنا عليه، ولكن أن يتم التوزيع الأوركسترالي على عمل عربي، هذا أمر جيد ومهم وفيه إضافة للموسيقا العربية، وأنا تخصصت بالأوبرا وقمت بالغناء بعشر لغات، ولكنني عدت إلى صلب المقامات الشرقية التي هي جزء من كياننا ووعينا واللاوعي لدينا، وأحببت أن أعطي صوتي هذه الأبعاد، كما عملت كثيراً كي يكون لي مكان في الشرقي والغربي من دون أن أؤثر سلباً في الجهتين وتجربتي كانت ناجحة في هذا الإطار.

ذكرت بأنك تقوم بالغناء بعشر لغات.. أي منها الأقرب إلى نفسك موسيقياً.. ولماذا؟
نعم.. أنا أغني بعشر لغات وربما أكثر، ولكن اللغة الأقرب في بداياتي كانت مع الأغنية الفرنسية الحديثة العائدة للفترة الفاصلة بين الخمسينيات والسبعينيات، ولكن فيما بعد وفي الأوبرا، أصبحت اللغة الأقرب لي هي اللغة الإيطالية، ولكن حالياً هناك تواصل روحيّ بيني وبين الحرف العربي والكلمة العربية وأعتقد أن هذا التواصل هو الباقي.

في يوم قلت: الرابط بينك وبين حلب بالذات لا يمكنك تفسيره.. اليوم هل تستطيع التفسير وفي ظل الظرف الحاليّ الصعب.. ماذا تقول لحلب؟
حتى الوقت الحالي لا أستطيع أن أفسّر الرابط بيني وبين حلب، فأظن أن الموضوع مرتبط بالروح والشجن، وكأنني عشت وتربيت فيها، وبالفعل ارتباطي بهذه المدينة العريقة، بالذات، لا أستطيع تفسيره، وخاصة أن علاقتي بها منذ عام 2008 وعدت لزيارتها في العام الذي تلاه لأنني شعرت بأن حلب تناديني، شعوري هذا لم أستطع تفسيره قبل ولا حتى الآن، وربما لو استطعت التفسير لكان خفّ هذا الوهج بيني وبينها، وستبقى حلب بالنسبة لي مهما جار عليها الزمن المدينة الأجمل، والمدينة التي روحي فيها والتي تناجي الوجود كلّه والكون كلّه، وأتمنى أن تتخطى هذا الكأس المر، ليس هي فقط بل سورية كلّها.

أنت كثير الترحال والسفر.. أي من المدن غير حلب، لها وقع في قلبك أيضا؟
كل مكان فيه تاريخ وحضارة ومبان وعمارة قديمة، يحمل معه مجداً وتاريخاً ورونقاً، ويؤثر فيّ كثيراً ومن المدن مثلا: أثينا، اسطنبول، دمشق، جبيل، والرباط القديمة في المغرب.

أنت نخبوي التوجه في فنك.. وجمهورك له نمطه الخاص سواء بالفكر أو الثقافة وحتى في الموسيقا.. هل اليوم الشريحة الأوسع من الشباب ينقصها كل ما ذُكر.. وهل هي غير قادرة على التذوق الموسيقي الصحيح؟
أعتقد أن هناك ذكاء ووعياً موجودين في جيناتنا وخاصة عند الشاب اللبناني والسوري، كما أظن أن الحرب ليست تدميراً ومدفعاً وقتلاً، بل هي تدمير للثقافة والفلكلور والتراث وللفكر، إذا الوضع يؤثر في الشباب بشكل مرعب وبالتالي يجرفه إلى الأغنية السطحية السخيفة، ولكن أنا برأيي أن الأمور إذا تمّ تصويبها بالشكل الصحيح، فسنكون قادرين على الخروج من هذا المستنقع الموسيقي والإعلامي الهابط، واليوم أنا أرى، وسأتحدث هنا عن تجربتي الشخصية، عندما يكون هناك اهتمام إعلامي بحفلاتي، فإنني أجد حضوراً شبابياً كبيراً إلى درجة أنه لا يبقى في المسرح مكان شاغر، وبالتالي هذا أمر يشعرني بالفرح، وهنا أركز على دور الإعلام الذي عليه أن يدعم الرقي وكل ما هو بعيد عن الابتذال والسخف.

في ختام حديثنا أخبرنا عن مخططاتك المستقبلية وما جديدك؟
قريباً سيتم عرض فيديو كليبين، الأول تمّ تصويره في اسطنبول والآخر في موسكو وسان بطبرسبرغ في روسيا، وسيتم العرض في بداية العام الجديد، إضافة إلى الألبوم الصوفي الذي يفترض أن يصدر في العام الجديد، وفيما يتعلق بحفلاتي فلدي أمسيتان ميلاديتان في لبنان، وفي 19 من الشهر الحالي سأكون في دمشق كي أغني الميلاد والمولد النبوي الشريف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن