من دفتر الوطن

السينما كمادة دراسية

| حسن م. يوسف 

وقعت في غرام السينما من أول فيلم، وما زلت أزداد بها ولعاً، فهي لم تكن بالنسبة لي يوماً مجرد واحد من الفنون، التي تصقل النفس وتنير العقل وحسب، بل هي أشبه بطقس سحري يغمسني في عوالم أخرى لا حصر لها، ويكسبني عصارة حياة كثيرين من الأحياء في مختلف الأرجاء، كما يكسبني أعمار عديدين آخرين، بعضهم ماتوا منذ قرون وقرون.
كان الذهاب إلى السينما ولا يزال بالنسبة لي كما وصفه المخرج العبقري فيديريكو فيلليني: « أشبه بالعودة إلى الرحم؛ أنت تجلس هناك ساكناً متأملاً في الظلام تنتظر الحياة لتظهر على الشاشة».
خلال أقل من شهر ونصف الشهر أتيحت لي الفرصة لمشاهدة فيلمين سينمائيين من إنتاج المؤسسة العامة للسينما الأول هو «رد القضاء» للمخرج القدير نجدة إسماعيل أنزور، عن المأثرة البطولية التي سجلتها حامية سجن حلب المركزي، والثاني هو «الأب» للمخرج الموهوب باسل الخطيب الذي سبق أن أتحفنا خلال الأعوام الثلاثة الماضية بثلاثية أفلام «مريم»، و«الأم»، و«سوريون» حصدت العديد من الجوائز المهمة في عدد من المهرجانات الإقليمية والدولية.
تخللت حفلة عرض فيلم «الأب» يوم الأربعاء الماضي في صالة سينما سيتي لحظات مؤثرة، إذ وقع خطأ تقني أخَّر عرض النشيد السوري، فردد الحضور النشيد بأصواتهم، كما اشتعلت الصالة بالتصفيق عندما أهدى باسل الخطيب فيلمه لمدينة حلب قبل يوم واحد من تحريرها من رجس الإرهابيين.
لن ألخص لكم فيلم «الأب» فالمجال لا يتسع، إلا أنني أدعو الجميع لمشاهدته فقد نجح المخرج باسل الخطيب في رصد التمزقات العميقة والأشواق الدفينة والآلام المبرحة التي عاشتها شريحة من السوريين خلال الحرب التي تشنها الفاشية الوهابية علينا، وتمكن من تحويلها إلى معرض من اللوحات الإبداعية التي تعبر بصدق وجمال جارحين عن اللحظة المتشظية الدامية التي نعيشها في غير منطقة من وطننا السوري الحبيب.
أعترف أنني من محبي فن وفكر وشخص الفنان المبدع الكبير أيمن زيدان، غير أنني لا أعتبر شهادتي به مجروحة على الإطلاق، فأسلوبه العميق الرهيف المتجدد في تجسيد الجوانب المختلفة من شخصية «الأب» يجعله مدرسة في فنون الأداء وأهلاً لكل إطراء.
وقد تألقت إلى جانب أيمن زيدان الفنانة روبين عيسى، والفنانون يحيى بيازي، عامر علي، جابر جوخدار، كما قدم الفنان رامز عطا اللـه أداء لافتاً لشخصية القائد الداعشي، وهنا لابد أن أشير إلى أن بعض من ذكرتهم خالطت أداءهم نفحة خفيفة من الأداء المسرحي كان يحسن بهم الانتباه إليها.
لقد سبق لي أن طالبت بتخصيص ساعة أو ساعتين دراسيتين في الأسبوع في كل المراحل الدراسية يتم خلالها تقديم ومناقشة أفلام سينمائية مختارة للطلبة، تتناسب مع درجة وعيهم وسنهم، بحضور أبطالها ومخرجيها، فالسينما هي الفن الأقدر على صياغة وجدان الإنسان خاصة عندما يكون في مقتبل العمر.
في المشهد الأخير من الفيلم يرفض الطفل المدرب من داعش أن يطلق الرصاص على الأب فهذا «هو صوت المقبل من الأيام» على حد قول الناقد الكبير محمد الأحمد. وبما أن الأستاذ هزوان الوز وزير التربية كان حاضراً لعرض الافتتاح أسمح لنفسي بإعادة طرح فكرة الحصص السينمائية إذ إنه من الجيد والجميل أن تصل رسائل مبدعينا لأطفالنا وبنينا، وخاصة أن الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما خلال الأعوام الماضية لا تعزز علاقة السينما بمجتمعها وحسب، بل تقدم دليلاً ملموساً على أن قلب دمشق كان ولا يزال ينبض ثقافة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن