ثقافة وفن

كرباج لـ«الوطن»: القصيدة واللوحة عالمان مختلفان من حيثُ الأدوات متشابهان من حيث الطاقة التي تولّدهما

| سارة سلامة

المرأة في أعمالها تبدو استثنائية بعيون حائرة ونظرة مريبة أخاذة لا تعرف حقيقة ما الذي يمكن أن تفضي إليه، فالرسمُ يُعيدها طفلة، أما النص الأدبي فيجعلها رشيقة حالمة، رانيا كرباج فنانة تشكيلية وأديبة سورية أصلها الحلبي ربما أعطاها هذا الحس الفني المرهف، القصيدة عندها كما اللوحة تعطيها من إحساسها وتعبّر بها عن روحها المحتجزة في عالم يكاد يضيق بها، أسلوبها يجمع بين الواقع والخيال مع تأثرها الواضح بالأيقونة الحلبية، أكثر ما يستهويها رسم الوجوه، الوجهُ الإنساني بكلِّ تفاصيله الجميلة، فتعيدُ خلقه في كلِّ مرّةٍ بصورة جديدة مشعة وغريبة وكأنها تحييه بمنظورها الخاص.
لم تجد كرباج ضالتها في الهندسة المدنية فبعد خمس سنوات من الدراسة والعمل الدؤوب للحصول على الشهادة، كان هناك صوت بداخلها يصرخ بأعلى صوت «كفى»، لتضع نهاية لحياتها الهندسية وتشق طريقاً استهواها في شبابها ألا وهو الفن والأدب في خطوة فتحت لها عالم الفن والجمال والإحساس، وها هي اليوم فنانة تشكيلية لها خطها المميز وشاركت في العديد من المعارض والمنتديات الفنية السورية والإقليمية ليس آخرها معرض «حلب قصدنا وأنت السبيل»، وأيضاً كاتبة وأديبة لها عدة دواوين.
صحيفة «الوطن» التقت الفنانة التشكيلية والأديبة رانيا كرباج وكان لنا معها هذه المساحة من البوح:
 باعتبارك خريجة كلية الهندسة المدنية كيف اتجهت إلى عالم الفن والأدب وما أولى خطواتك في عالم الاحتراف؟
من الهندسة إلى التشكيل فالشعر، أعتقد أن في داخلنا دائماً توقاً لا ينتهي للبحثِ عن أصالتنا، « من أنا ولم أنا هُنا» سؤالٌ يؤرقُ كلَّ إنسانٍ فتحَ في كيانهِ باباً للوعي، ففي داخلِ كلٍّ منّا خريطة تشبهُ تلكَ التي يبحثُ عنها البحّارة في القصص ليجدوا الكنزَ المفقود، لكن الخريطة هذه المرّة محفورةٌ في صدورنا والكنز هو في نهايةِ المطاف قدرتُنا على تلمّس ملكاتنا ومواهبنا وتحويلها إلى حقيقة، خمس سنوات في كليّة الهندسة المدنية تخرجت خلالها في مركز رولان خوري للفنون التشكيلية كانت كافية لي لأقولَ كفى، الفنُّ خريطتي وطريقي.

برأيك هل هناك علاقة بين الأدب والفن التشكيلي، وهل يوجد لغة وتمازج بين القصيدة واللوحة؟
القصيدة واللوحة عالمان مختلفان تماماً من حيثُ الأدوات متشابهان من حيث الطاقة التي توّلدهما، هُنا الكلمة والفكر وهناك الخطوط والألوان، أما الطاقة التي توّلدهما فهي روح الفنان المجبولة من أفكار وأحاسيس تبحث لها عن بابٍ للنجاة أمام واقعٍ مغلقٍ يكادُ يخنقُها.

 من خلال لوحاتك نلاحظ شخصيتك طاغية في معظم الأعمال وخصوصاً أسلوبك بالتعبير عن الأم وابنتها، تحدثي لنا أكثر عن أسلوبك؟
يجمعُ أسلوبي بينَ الواقعِ والمُتخيَّل، بمعنى أن الشخوصَ في اللوحة واقعية حيناً وحيناً آخر تكسر كلَّ المقاييس لتنفرد بذاتها وتقول ها أنذا لا أشبهُ شيئاً سواي، أكثر ما يستهويني هو رسمُ الوجوه، الوجهُ الإنساني بكلِّ تفاصيله الجميلة، في كلِّ مرّةٍ أعيدُ خلقه أشعُرُ بنشوةٍ أكبر، وجوهي أرسمُها طازجة بريئة وكأنّها خرجت لتوّها من البيضةِ الكونية الأولى، الطفولة دائماً حاضِرة تفتحُ مساماتٍ جديدة في اللوحة وتجعلُها تتنفّس أعمق، أستخدم ورق الذهب لإضافة بريقٍ على اللوحة يفوق طاقة اللون العادي، إيماناً منّي بأن كلاً منّا يحمل في داخلهِ هذا البريق غير العادي، هو جذوةُ الألوهة وُزِّعَت علينا ولكن هذه المرّة كلٌّ حسبَ مشيئته.

 ما سبب اعتمادك على الطبيعة بشكل عام؟
الطبيعة هي المصدر الذي نستقي منه الأشكال والألوان وحتى الأفكار، لا يمكن للفنِّ أن ينمو بينَ الجدرانِ المغلقة، لا بدَّ أن يعيشَ الحقيقة ثمَّ يخرجها بطريقته، والحقيقة هي الطبيعة، طبيعة اللون وتحوّلاته بينَ الظلِّ والنور، طبيعة الإنسان جسداً وروحاً، وتفاعلهِ مع بيئته، الأشجار، الزهور، الطيور وكل ما هو مخلوقٌ في المكان ومرتبط بالزمان هو طبيعة لا بدَّ للفنّ أن يعيشها بعمق كي يستطيعَ أن يبلور خصوصيته.

 هل تأثرت حركة الفن التشكيلي في مدينة حلب في ظل الظروف الراهنة؟
طبعاً ستتأثر حركة الفن التشكيلي في ظلّ الانهيار الذي أصابَ مدينة حلب وأودى بحضارةٍ ظلّت تبني نفسها قروناً طويلة، انهيار الحجر ليس بشيء أمام ما عانت منه حلب من دمار لبُناها التحتية وتركيبتها الاجتماعية وتآكلها عاصمة اقتصادية استطاعت أن تحوّل الحرفة والمهارة اليدوية المتوارثة أباً عن جدّ إلى صناعة تغزو بها العالم، أمّا الفن التشكيلي الذي هو ابن موروث عريق وعميق لهذه المدينة فأصبح هو الآخر مثلَ مبانيها المُهدّمة، فقد توزّعَ فنانو حلب في كلِّ أنحاءِ العالم محاولينَ أن يشقّوا لأنفسهم طُرقاً جديدة ويقدّموا ما استطاعوا أن ينجوا به من تراثِ وفن مدينتهم الحبيبة، أمّا البقيّة المُتبقّية فقد عانوا الأمرّين من تلكَ الحرب التي دارت رحاها في عقرِ دارِهم، فكان حِفاظُهم على وجودهم وتمسّكهم بفنهم في وجهِ آلة الموت جزءاً لا يتجزّأ من الحربِ التي يخوضها الوطن.

 ما سبب تأثركِ إلى حد بعيد بفن الأيقونة ولاسيما الايقونة الحلبية؟
الأيقونة هي جزء من تُراثنا وأنا ابنة حلب التي كانَ لها حضورها وبصمتُها في هذا المجال، لقد كبرتُ مع الأيقونة وكبُرَ حبُّها في قلبي، لتطبعَ أعمالي لاحقاً بقدسيتها ودفئها وانفتاحها على غير المنظور.

 هل اختلفت طبيعة أعمالك في ظل الأزمة؟
لم تختلف طبيعة أعمالي لكنّها بالتأكيد تأثّرت بالأزمة، مع أنني حاولتُ أن أحافظ على جوهر عملي الذي يقوم على البحث عن كل ما هو جميل وأصيل، لكن هناكَ انكسارات وآلام يبدو أنها سمة المرحلة.

 شاركتِ في عدة معارض جماعية ربما كان آخرها «حلب قصدنا وأنت السبيل»، ما أهمية المعارض الجماعية لك؟
المعارض الجماعية لكونها لقاءً لتجارب مختلفة تساعد الفنان على الخروج من ذاتهِ قليلاً للانفتاح على ما لدى الآخر، « حلب قصدنا وأنتِ السبيل» كانَ لقاءً مميّزاً بخصوصيته وحميميّتهِ، حيثُ كانت حلب حاضرة بوجوهِ فنّانيها الجميلة، بمعاناتهم وصبرهم وكلّ الأمل الذي يُعلّقونه على مستقبلٍ أفضل لهم ولمدينتهم.

 مجموعاتك الشعرية عبارة عن شعر وجداني يحكي عن الإنسان، والحب، والطبيعة، والله، والوطن، تحدثي لنا أكثر عن أسلوبك؟
الرسمُ يُطهّرني، يُعيدني كما الأطفال، فأكتب، لتأتي نصوصي رشيقة حالمة، تستطيعُ أن تعبُرَ الألم من دونَ أن تقعَ في مصيَدَته، ليسَ تعالياً على الواقع كما يظنُّ البعض، وإنّما إمعان في الإبحار في هذا الواقع لكن الهدف هذه المرّة هو الوصول إلى اللؤلؤة « القصيدة» حيث يتضافر الألم والأمل ليصنعا من الحياة شيئاً جميلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن