ثقافة وفن

ماذا نفعل في زمن الحرب؟! … الفنان نزار صابور يعرض ملحمة ست سنوات من المعاناة السورية

| نهلة كامل

في زمن الحرب… ماذا علينا أن نفعل؟! سؤال إبداعي جدلي طرحه الفنان الرسام نزار صابور في معرض تحت عنوان: «ست سنوات» في خان أسعد باشا برعاية واهتمام وزير الثقافة الأستاذ محمد الأحمد.

الإجابة الإبداعية
الإجابة الفكرية جاءت في مقدمة بروشور المعرض الذي أشرفت عليه الفنانة التشكيلية السيدة صبا العلي، حيث حدد صابور أهدافه قائلاً: كيف يمكن للفن أن يكون شاهداً على العصر، كيف له أن يكون ذاكرتنا اليومية وليس متعة عابرة: الفن طريقي للدفاع عن الحياة ضد الموت.
انطلاقاً من الأهداف السابقة انجز صابور إجابته الإبداعية التي لم تكن سهلة ولا تقليدية بل مجتهدة وخلاقة وصعبة صعوبة الموضوع الذي تصدت له مجموعة لوحات المعرض، الذي شكل محطات بارزة وإبداعية في تاريخ البشرية: الحرب والعنف والإرهاب الذي عاشته سورية خلال ست سنوات ويكاد يمتد إلى العالم إذا لم يفهم التجربة.

المعرض- العرض
ولعلي أستطيع الافتراض أن المعرض- العرض في خان أسعد باشا كان له ذلك البعد الدرامي، والأسلوب الملحمي، فلا أفصل بين ظاهرة العرض وموضوع اللوحات عددها 120 لوحة والتي عرضت بشكل غرف متلاحقة متعالية التعبير والنداء، ممتدة على أرض ست سنوات من المعاناة، وقد كان خان أسعد باشا باتساعه وتراثيته جديراً باحتضان هذا البعد وإبراز مفاهيمه.
هل تقصد صابور إعطاء معرضه هذا البعد الدرامي؟ أم جاء ذلك عفوياً.. أستطيع هنا التوقف لعرض عناوين المعرض المتتالية المعبرة عن تصاعد النبرة في الموضوع الذي تابعه المشاهد، حيث يقع المعرض تحت عشرة عناوين كانت: نهر الدم، نعوات سورية، أشلاء، الحصار، الكتاب حارس الموت والحياة، معلوليات والقلمون، الصمت هس، أيقونة لصحن الزيتون، أيقونة سورية.
وأستطيع القول إن المشاهد الذي وطأت قدمه أرض المعرض للتو اجتاحه شعور استعادة معاناته من جديد حيث بدأت بالتفاصيل اليومية حتى الوصول إلى ذروة الهجوم الأسود على سورية إنساناً وبيئة، البعد الدرامي للملحمة هو ما رأته عين المشاهد حتى انبثاق حالة تتطلع إلى خاتمة إنسانية تليق بالروح وهي تطلب العودة إلى حياتها.

الحرب سوداء
معرض «ست سنوات» ينحاز للدفاع عن الحياة ضد الموت، لكنك كي ترفض الأمر وتحاربه، عليك إبداعياً أن تعطيه رمزه وشكله كعدو السبب الذي جعل صابور يبدع أدوات جديدة، شكل صابور اللون الأسود الفاحم رمزاً لفعل الحرب والعنف والهمجية أينما حلت، وخلق من أجل هذا طبقة السواد السميكة من طحن عرجوم الزيتون، ثم اختار الرماد رمزاً آخر للحزن الروحي معلناً انطفاء الألوان ممتداً كأفق بديل في الفضاء حتى إشعار تغلب الحياة على الموت.
يستهل صابور معرضه بلوحة كبيرة من القماش تحت عنوان «نهر الدم» حققها عام 2010 مستشرفاً الحدث قبيل الأزمة السورية، حيث بدأ يؤطر الحياة العربية باللون الأسود… تاريخاً عربياً رمادياً عاشته شخصياً مؤثرة كالمتنبي الذي أراده صابور رمزاً في تلك اللوحة… تاريخاً لم ندرك أن نهر الدم يسيل من تحته والأرضية باستمرار.
وقبل أن نبدأ الدخول في غرف المعاناة السورية ستتقدم إلى بصرنا لوحة عرضانية اتسعت لتصوير مراحل لونية متتابعة كتبت عليها عبارة لميخائيل نعيمة تقول: أيها العابر كالظل يا أخي… ما أجمل الحياة… سنلاحظ هنا أن كلمات ما أجمل الحياة كتبت فوق اللون الأسود وطغت عليه.
واقعية استثنائية

أنتجت المعاناة السورية اليومية من جديد واقعية استثنائية مرتبطة بالحدث واقعية صابور هذه لا تشكل قطيعة مع أسلوبه الفني، بل تستنفر كل أدوات تجربته الإبداعية، وتضيف، إلى أسلوبه الذي يحب التشكيل باللون الأسود الذي يجثم فوق ألوان الحياة رمزاً لوحشية العدو… واقعية صابور لا تتشكل دون أبعاد تعبيرية وتجريدية ورمزية، يلون مساحاتها المعيشية والنفسية ويطلقها من بؤرة الروح لتصبح من جديد كائناً متجسداً وليس قشرة خارجية مسطحة.
لقد أعطت المعاناة السورية في «ست سنوات» صابور المبدع فرصة للاجتهاد والخلق، وزخماً كثيفاً من العناوين والأفكار نادراً ما يحصل عليه الفنان في أوقات الهدوء، لكنها ارتبطت بمشهدية العنف والوحشية التي لم تألفها العين السورية، ودخلت في أبعاد نفسية تتصف بالسوداوية والقسوة بل الانكسار حالات لم ينطلق منها صابور في إبداعه من قبل، هكذا أصبح الفنان أمام تحدي ابتكار تقنيات وحوامل تعبيرية تضاهي مواضيعها، حيث قال لي: اشتغلت شيئاً لا أشتغله عادة، مضيفاً لكل وقت واقعيته، أدرك صابور أن عليه إنتاج واقعية مناسبة وهو يتطرق إلى مواضيع صعبة، وتصوير قسوة غير منطقية، ويعرض لأحاسيس ورموز قد تكون فاقدة الجاذبية البصرية، متنطعاً لإنتاج واقعية مشرقية ترتبط الآن بموضوع الحرب.

واقعية ترى الروح
إن صابور الذي يكرر دوماً أن واقعيته ليست واقعية غوستاف كوربيه والد الواقعية الغربية، الذي يرى أن الواقعية هي ما تراه العين فقط، يفسر في معرض «ست سنوات» كيف أن واقعيته هي أسلوب يعكس الأبعاد كلها وما تراه العين في اللوحة هو مجمل المعاناة الواقعية بكل رموزها وأشكالها الجمالية التعبيرية والنفسية والبيئية، وحيث لابد من الاجتهاد والتجريب والتجريد والتجديد كي تجد الأرواح لها مكاناً داخل اللوحة.
هكذا جاءت العناوين المتلاحقة مثل «نعوات سورية، أشلاء، الحصار» مواضيع معبرة عن واقعية صابور المشرقية التي احتفت بكل الأبعاد والتفاصيل حتى وصلت إلى تحقيق تلك اللوحة التي تبهرك تقنياتها العالية لدرجة الصدمة، التي أخرجت المواضيع القاسية من حادثة إلى حدث ومن موضوع إلى لوحة.. إلى عمل إبداعي قابل للاستمرار وليس متعة أو حادثة عابرة، نسيناها كما يقول صابور.
في معرض «ست سنوات» نجد التقنيات متحدة مع موضوعها.. لقد اعتمد صابور على شكل الخط العربي تحت عنوان «نعوات سورية» وقدمه بأشكال متعددة نابعة من مكانه في البيئة السورية فجاء جمالية واقعية ورمزاً بآن تجعل الموت عقيدة جمعية لا تخشى الفناء.
وها هو تحت عنوان «أشلاء» يستخدم كثافة اللون الأسود في اللوحة كي يوحد تفحم الجسد البشري والعصافير معاً على مساحة واسعة من الرمادي إشارة حزينة إلى ما يهدد الكائنات كلها من اجتياح العنف الأسود.
وكانت الأجساد البشرية النازفة حول «بقعة دم» هي الصلة المستمرة التي تغذي النزيف بمعنى الموت المتواصل على الأرض.

الحصار
لقد كرس صابور لموضوع «أشلاء» اللوحة الكبيرة على قماش حيث كان الرمادي ممتداً على الأرض السورية، لكنه استلهاماً لعنوان آخر فإن التقنية تجدد رؤيتها وكادرها حيث أصبحت اللوحة تحت عنوان «الحصار» دائرية من خشب.
يستلهم صابور شعر محمود درويش: حاصر حصارك. فيخرج من اللوحة ذات الأضلاع الهندسية إلى الشكل الدائري حيث لا زاوية للخروج.
الحصار شكل بصري يرتبط بيوميات الحياة السورية بتفاصيلها ورموزها هو حالة صبر وانتظار وتطلع دائم لاختراق الجدار السميك المفروض على حركة الإنسان وانفعالاته وأدواته… شكل استخدمه صابور للمرة الأولى وهو يحاول خلق الشكل الأمثل لموضوع مرتبط بست سنوات من الحصار.
شيئاً فشيئاً وأنت تمضي مشاهداً في غرف المعرض سوف تدخل الحصار وأنت تجد نفسك هنا وهناك داخل الإطار الدائري، الحصار الذي يعرض لأمزجة لونية متعددة يعيد تشكيل حالتك النفسية والروحانية، أنت مستمر هنا داخل الكادر الدائري تعيش حالة «الموت الجميل» في لوحات وضع صابور داخلها أجساداً شفافة لا تكاد تفرق بين شكل الموت والحياة حيث: تتوقع الموت كل يوم لكنك تحيا.

الإرهاب الأميركي في كتاب
إن رغبة صابور وقدرته على إعطاء كل موضوع أسلوبه وشكله كانت تتحرك فوق مساحات بصرية مخلوقة وخلاقة تعبر عن رشاقة الأسلوب وعن شغف وحرية صابور وولعه بالدخول إلى روح اللوحة والتجديد من داخل الموضوع حتى الوصول إلى شكل يرتاح إليه… وها هو في مجموعة تحت عنوان: «كتاب حارس الموت والحياة» وأحاسيس قبيل الضربة الأميركية يرصد الأشكال الجسدية والنفسية والذهنية، الترقب والهلع ويودعه دفتي كتاب من خشب كي يبقى شاهداً، موحداً ومتماسكاً على الإرهاب الأميركي… هذه الحالة استحقت شكل الكتاب بجدارة… وجاء الأسلوب مضاهياً الموضوع.

القلمون ذروة الملحمة
تتوج غرفة المعلوليات والقلمون فصول ملحمة السنوات الست، وكأن الغرف السابقة والعناوين كانت تمهيداً للوصول إلى الذروة. سيدخل المشاهد هنا مع العاصفة الوحشية قبل الحريق وبعده ويرى كما عرضت اللوحات القلمون ومعلولا قبيل العاصفة وما بعدها، ويسير وهو يعيش صدمة القسوة التي حلت بذلك المكان الآمن الذي عاش الأزل والقداسة وجمال البيئة والروح.. هذه النقلة الخاطفة بين جمال المكان في معلولا الآرامية وصدمة مشاهدتك الأيقونة بشكليها قبل وبعد الاحتراق تستحوذ على مشاعر المقارنة المأساة.. أنت تعيش الحالة من داخل مشاعرك أنت لما لمجموعة القلمون من قدرة تشكيلية تفوق التوقع حتى تصل إلى صدارة المعرض بلوحة القلمون حيث احتل الأسود السميك كامل الملامح والتضاريس ستردد مع صابور الفكرة: حيث هبت العاصفة حتى الآلهة ارتعدت، ابتعدت صاعدة نحو السماء، حين الحرب كأن كل شيء قد غادر المكان القديسون والبشر وأثرهم..
القلمون اللوحة لا تترك لك المجال كي تغادر العنوان من خارج موضوعه وإطاره أنت السوري الذي يرفض الموت ستنتظر عودة القلمون إلى الحياة..
تشاركنا الدكتورة أثير محمد علي الرأي بذلك البعد الدرامي العنيف الذي يستحوذ على المشاهد أمام ذروة القلمون الإبداعية حيث تجد: أن لوحات مجموعة القلمون تبعث إيهاماً للمتلقي بأن مروره البصري على الديار والرعوش الجبلية والسفوح الجبلية المرسومة أشبه ما يكون برحلة هو ناظر ومشارك فيها، فالوقوف أمام اللوحة لا يترك مجالاً للسكينة واللامبالاة..
مجموعة القلمون ليست فقط ذروة الملحمة الواقعية في المعرض- العرض بل هي ذروة الإبداع، وملحمة صراع الفنان مع التحدي الكبير حيث كان يجب أن يتفوق الفنان على أسلوبه، والأسلوب على نفسه.
يصل صابور ذروة إبداعه في ذلك المشهد- اللوحة التي تتصدر المعرض حيث أسود العرجوم والفحم والرماد يصدم الباحث عن مظاهر الحياة التي أبادتها الوحشية، هي ذروة الملحمة التراجيدية التي أنجزها صابور على مساحة واسعة من القماش فكانت اللوحة جوكندا صابور التي تتحكم بالمشهد بغموض آسر رغم كل ما فيها من وضوح.. والغموض شرط لابد منه لواقعية صابور..
مجموعة القلمون كانت ذروة النداء لكسر طبقة السواد.. فأي ملحمة إذا كسرته الأيدي السورية عن صدر القلمون وعاد البشر إلى حياتهم والقديسون إلى أرواحهم..

أنت الأيقونة
ما بعد ذروة القلمون كان موضوع خيار إبداعي حيث اتجهت غرف المعرض إلى أبعاد روحانية تحت عناوين ثلاثة هي: الصمت هس، أيقونة لصحن الزيتون، أيقونة سورية.. لكنها روحانية في إطارها الواقعي من الحدث السوري: هي اليوميات والبيئة والإنسان.
ندخل بعد سواد القلمون إلى غرفة (الصمت هس) حيث اختار صابور لمجموعة لوحاتها اللون الأبيض لتقول لك: هس ألا تسمع صوت الموت، الأبيض حالة أخرى صادمة وغامضة، كأنها الملاذ الأخير الممكن للإنسان لغسل ألوان المعاناة جميعها، ربما بأسلوب التطهر، هي روحانية الموت التي لا يمكن أن يطولها السواد، أو تلك التي تقبل الموت والحياة وهي تمحي ألوان التفحم والدم والرماد وهي أيقونة مزركشة بدانتيلا الأفراح الممكنة..
يكرس نزار صابور شكل الأيقونة السورية التراثية، التي تمثل ولع صابور وإيمانه بأنها قادرة على تجديد موضوعها وتعدد أهدافها.. ويجعله الخطوة الأخيرة في ملحمته، حيث أراد منها أن تكون أسلوباً وشكلاً لإضفاء القداسة على حياة ومعاناة الإنسان السوري.. وتحت عنوان (أيقونة لصحن الزيتون) يحتفي بالزاد اليومي للإنسان. حيث حبات الزيتون القدسية في الأديان تكريساً آخر للدفاع عن البشر، وهي تدخل مطارح معيشتهم ويومياتهم وصحونهم، لتكون بالنهاية صدقية بسيطة تجعل الإنسان أولوية الحياة..
مجموعة «الأيقونة السورية» في غرفة المعرض الأخيرة تضع معاناة الإنسان داخل إطار الأيقونة وتجعل عذابه مشابهاً للعذاب القدسي.. يرسم صابور الأيقونة من الداخل من أبعاد الروح ومساحاتها وأشكالها المتعددة الألوان.. لكن المصلوب هو الإنسان السوري والصلب عملية متكررة الرموز والمواضيع، والألوان هي التي سارت على طريق المعاناة رافضة: الموت باسم الله.. حتى الوصول إلى الأيقونة الأخيرة التي طمس معالمها اللون الأسود وتوقفت الريشة عن الرسم.
يشبه طغيان الأسود على الأيقونة الأخيرة طغيانه على لوحة المقدمة التي كتب صابور فوقها: ما أجمل الحياة.. والدعوة لكسر السواد عن الملامح السورية هو أسلوب صابور في الدفاع عن الحياة ضد الموت وهي جوابه النهائي في زمن الحرب.

العن الحرب
لم أستطع مشاهدة الفنان صابور إلا إنساناً آخر داخل لوحته: يعرف طريقه للدفاع عن الحياة ضد الموت، ويبدع طريقته المرتبطة بالجهد والاجتهاد والدأب حتى الوصول إلى نشوة وعذاب المعاناة المضاعفة كإنسان وفنان، هو الروح المتألمة وريشة الرسم.. حيث استنفد صابور السنوات الست سنوات واستنفدته، تحداها وتحدته داخل لوحته، أعطته أقصى ما يحلم به الفنان من إلهام، وكرس لها كل ما ملك وخلق من تقنيات كي تكون أسلحة في صراعه مع الأسود.
حافظ صابور على صفاء تجربته وثباتها فوق ساحة النزال المتحركة لست سنوات، وحقق جوابه الإبداعي عن سؤال: ماذا نفعل في زمن الحرب، فاستحق أن يكون داخل الأيقونة السورية في معرضه، وأنجز ملحمة لا يمكن أن تكون متعة عابرة للناظر، بل مستمرة، أينما حلت، في الوجدان السوري والبشري لأنها تلعن الحرب، وتجعلك أنت أيضاً تلعنها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن