ثقافة وفن

ابتهال شامي في ختام عام

| إسماعيل مروة

إلى من جعل للياسمين رائحة خاصة ولدمشق نكهة تميّزها.

-1-
أَخَذتْ تجوبُ الأرض باكية حزينة…
حصياتها ترفع يديها عالياً نحو السماء..
تذرف دمعاتها، تكشف عن قلبها المدمى، تتوسل بكل ما تملك، من أجل عاشقها، ذلك الراعي الغجري
الذي حمل نايه الأنيق، وجاب به الأرض يغنيها…
شجرات الغوطة رضعت ماءها من عزفه، وأخذت نسغها من أغانيه..
تتحدى سطوة الإنسان الغبي، تشمخ بأوراقها نحو السماء، ترفع أكفها نحو السماء:
– يا رب لم يبق للجمال سواه.

-2-
فينوس، أفروديت، عشتاروت..
كل ربّات الجمال لبسن أثوابهن الدّكن…
وطافت أرجاء الكون تبكي سيدها، منشئها المتمدد على السرير الأبيض لا يلوي على شيء..

-3-
البندقية، القدس، المبادئ السامية، تقف كلها على رؤوس أصابعها، لتحوط سرير عاشقها
الراقد مبتسماً كالأطفال، يرفع جسده عن السرير الأبيض حتى لا يلمس الجسد، فيأخذ من
إباء الشعر، وقد وهبه للأرض والإنسان.
في الأرض العربية نهر واحد يدعى (العاصي).
ومذ رقد شقيق الجمال صارت كل الأنهار عاصية:
الفرات… النيل… دجلة
كل الأنهار اتجهت صوب الشمال، ومدّت أصابعها لترش سريره وغرفته بماء الطهر المقدس الذي نذر له حياته كلها… فكان ما كان.
الحارات العربية من المغرب إلى الخليج تتابع تنهداته، تنتظر أخباره من غرفة العناية المركزة، تقرؤها على أوراق الورد الجوري الدمشقي، وعلى أوراق الياسمين البلدي..

-4-
شياطين الشعر، ملوك عبقر، كهنة الفن..
كلهم يجتمعون الآن
يتهامسون
كل العالم عندهم يتساوى إلا هو…
إلهامه شآمي يخرج عن السيطرة
ومحبوبته تلفح الشمس بأنفاسها، وتدوّخ القمر بعطرها…
محبوبته الشام صامتة ساكتة!!
وحدها لا تذرف الدمع، فقد خبأت دمعها، أرسلته في قارورة، وسكبته في المصل المعلّق فوق سريره…
تقف من البعيد، ترقب حال وليدها المدلل، الذي يجوب شوارع دمشق القديمة بين باب توما والقيمرية، والبزورية، بين أكياس البهارات، وزجاجات العطر المصنوع هنا..
وقفت محبوبته الشام لتحلف بأن (الكتابة عمل انقلابي).
ولتصرخ في وجه القبح: (الحب لا يقف على الضوء الأحمر)..
ولتقص أظفارها التي علّمها أن: (الكلمات تعرف الغضب)..
وحدها الشام لا تبكي، لا تتكلم..
لا تتخيل الحياة دون ابنها وعاشقها، دون الذي جعل العطر الدمشقي عطراً يعبأ في قارورة
من الورق ليتفشى تحت الجلد العربي..
أصابع دمشق العشر، الألف، المليون، المليار…
تمتد جسراً تجاه الشمال..
وآه منك يا الشمال.
يا من تستأثر بهم، وتشمت بالجنوب..
تمدّ الشام أصابعها من الياسمين والفلّ والورد الجوري..
تمسح جبين ابنها الذي أدمن عشقها..
الذي قاوم الطاعون…
وحلف بميسون…
وأراد أن يمحو أُميّة المدينة…

-5-
أفاق الولد من لحظاته الخرافية
عاد إلى شيطنته وجنونه..
ألقى رأسه على صدرها.
زرع أنفه في جذور الياسمين البلدي، أخذ يشم منها بلا توقف.
حين أيقن أن الياسمين بخير، ألقى نفسه على صدر وردة جورية واستراح طويلاً…
الأم تقف فوق رأسه مذهولة، تداعب غرته الشقراء الجميلة، تتحسس مساحة الياسمين والجوري.
وترى الياسمين المفجوع مقابل الجسد الذي نثر عبقه، فصار أباً للياسمين، ولكل الروائح الآسرة.

-6-
الفيحاء تنحني أمام ولدها الأسطورة..!
لا تنحني الفيحاء عادة..
لا تخفض الأم هامتها لولد.
إلا إذا كان الولد هو أشقرها الوفي الذي يتنفس هواءها أينما كان، ويشرب ماءها من صنابير الكون، ويزرع عطرها على الأرصفة العارية.
لا تنحني الشام
لكنها فعلت معه بعد أن وضعت له في حقائبه ما قالته السمراء، وما دوّنته من هوامش على دفتر النكسة، وما خربشته من رسم بالكلمات… وطاف الأرض.. ورأى آخر ما رأى المهرولين، فأغمض عينيه، ورحل إلى الضباب.

-7-
حاذري يا دمشق على الجسد المعطّر بالشعر، ضعيه بهدوء حتى لا تنفرط عقود الياسمين..
وسدّيه بكتب القراءة التي تعلمها..
احرسيه، وقد رفض كل الأحضان وعاد إلى حضنك…

-8-
حين صدحت مآذن الأموي لصلاة الفجر، جاءت الشام إلى حبيبها فلم تجده، تحولت ثوراته إلى عناقيد عنب وانزرع على شرفات البيوت الدمشقية، وصار دمعة نقية في عين كل حبيبة عربية…
رفعت الشام يديها من جديد:
يا رب..
بينما كان يربط ربطة عنقه، ليخرج إلى سوق البزورية..
في المساء سيدعو إلى وليمة كبيرة لن يحضرها!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن