من دفتر الوطن

ذاكرة القلب

| حسن م. يوسف 

«أنا أمانة عند الوقت، وهو لن يكون عندي أبداً؛ الوقت بحر، وأنا نقطة فيه».
قبل عام كتبت هذه الفكرة في دفتر ملاحظاتي وها هي تصعد كفقاعة مترجرجة تملأ رأسي. أتأملها فينتابني إحساس أنني كنت أجامل نفسي عندما كتبتها. فمن أنا لأعتبر نفسي نقطة في بحر الزمن! أعاود التفكير بعلاقتي بالزمن فأشعر أنني مجرد فقاعة تعلو موجة تنداح على سطح اللحظة الراهنة في بحر الزمن المطلق.
نحتفل نحن البشر بتقطيع الزمن إلى وحدات منفصلة: قرون، سنين، أيام، ساعات، ثوان… إلخ ونحن في هذا نكرر لعبة التبسيط الساذجة التي لعبناها مع المسافة عندما قطعناها إلى كيلومترات وأمتار وسنتيمترات وملليمترات… إلخ، جاهلين أن المسطرة لا تحكم المسافة، وأن الساعة لا تقيد الزمن. فالمسافة والزمن يحيطان بنا ولا نحيط بهما ويمتصاننا ولا نستطيع معرفة كنههما.
في لحظتي هذه أتفق مع من يرى إلى الزمن «لا بوصفه ساعة، وإنما بوصفه كائناً عضوياً، لا بوصفه إيقاعاً واحداً بل بوصفه سمفونية كاملة تتضافر مع عمليات الجسم الحي حيث لا سبيل إلى تمييزها عن الحياة نفسها».
لطالما سألت نفسي: هل يأتي الزمن ويمضي؟ ومن أين يجيء وإلى أين يروح؟
يرى الفيلسوف والعالم الألماني ليبنتز أن «الزمان والمكان سابقان على المادة لأنه يستحيل أن توجد دونهما»، لذا فهو يرفض التصور المطلق للزمن بوصفه شيئاً غير حقيقي ويقترح الأخذ بالتصور الذي يجعل «الزمن علاقات بين الأشياء ومجرد نظام لتوالي الأحداث». وبعد ليبنتز بأكثر من قرنين وضع أنشتاين نظرية النسبية التي اعتبرت الزمن كبعد رابع يضاف إلى الطول والعرض والارتفاع.
منذ بدايات عملي في الكتابة لم أتوقف يوماً عن التفكير بالزمن، وقد استنتجت باكراً أن الزمن هو البطل المطلق للدراما البشرية. فالزمن- ذلك البطل الخفي- ينتصر على كل الكائنات في النهاية.
منذ سنوات أعربت عن اعتقادي أن الطموح الأسمى للفن هو أن يجعل الزمن يغدو مرئياً! وهذا ما حاولت وأحاول تحقيقه في كل عمل فني قمت به، فأنا أطمح دائماً لجعل المشاهد أو القارئ يرى الزمن ويحس بسماكته، كي لا يؤجل حياته، فتدخل سماكة الزمن حاجزاً بينه وبين أحبابه وأحلامه! أريد من خلال كل عمل فني أنجزه أن أهمس في أذن المتلقي:
إذا كنت تريد أن تكون لطيفاً مع أحد ما، فقم بذلك الآن.
إذا كنت تريد أن تقول لأحد ما إنك تحبه، فقل له ذلك الآن.
إذا كنت تحلم بتغيير شيء ما في نفسك أو فيما حولك، فقم بتغييره الآن. لأن الغد ملك لنفسه، وبانتظار الغد قد تتغير أنت، أو يخطف الموت من تحب، فتضيع فرصة التغيير منك إلى الأبد. الحياة ليست ما تتمناه أو تنتظره، بل هي ما تفعله الآن… إن حياتك هي ما يجري الآن في حين أنت تنتظر شيئاً آخر!
قبل سنوات قرأت فكرة مدهشة للممثل الإنكليزي جيرمي أيرونز الذي فاز بأوسكار أفضل ممثل عن فيلم «انعكاس الثروة» كما فاز مرتين بجائزة إيمي، وحصل أيضاً على جائزة الغولدن غلوب. يقول أيرونز: «نحن جميعاً نملك آلات سفر عبر الزمن، منها ما يعيدنا إلى الوراء وتلك اسمها الذاكرة، ومنها ما يدفعنا إلى الأمام وتلك نسميها الأحلام».
اعلم أيها القارئ العزيز أن الماضي ملك لنفسه والمستقبل لم يحضر بعد، ولمناسبة اللحظة الراهنة، التي هي اللحظة الوحيدة التي نملكها، أدعوك لأن تنحاز لذاكرة القلب لكونها على حد قول الراحل الكبير غابرييل غارسيا ماركيز: «تمحو كل الذكريات السيئة وتضخم الذكريات الطيبة، فنحن بفضل هذه الخدعة نتمكن من تحمل الماضي».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن