للفقراء الجنة!!
| عصام داري
تهرب الكلمات مني، تصدمني، تجلدني، والأبجدية التي كانت عوناً لي على مدى أكثر من أربعة عقود، تبخل عليّ اليوم بحروف معدودات أسطرها في «دفتر الوطن» لأروي قصة قصيرة من أربعمئة حرف أو يزيد قليلاً، عني، وعنكم، وعن الوطن والحياة!.
هل وصلنا إلى مرحلة المحل والجفاف واليباب، بعد كل تجاربنا في هذه الدنيا التي كنا نظن أنها تجارب عمقت مداركنا، وشكلت شخصيتنا التي لا نرضى بديلاً منها ولا تبديلاً؟.
وهل كل ما تعلمناه في البيت والمدرسة والجامعة والوظائف التي شغلناها، كانت كذبة كبيرة، وأن الحقيقة هي عكس كل المسلمات والمفاهيم والتربية التي تلقيناها، وأن التاريخ أكذوبة، والجغرافيا مجرد لعبة للتسلية، وأن الوطن الكبير بات صغيراً جداً؟!.
علمونا أن العرب أمة واحدة، وعشنا في هذا الوهم الكبير سنوات وعقوداً، فاكتشفنا أن العرب هي دول ودويلات وإمارات ومشيخات، بل هي عشائر وقبائل متنافرة تتحارب مئة عام من أجل ناقة!!.
فهمنا أننا نتمتع بالحرية في الحياة والمعتقدات والأفكار فهي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أم قيوداً معنوية وقدرة الفرد على اتخاذ القرار المناسب له دون أي تدخُّل أو تأثير من أي طرف آخر.
هكذا هو تعريف الحرية، لكن، بعد كل تلك السنوات توصلت شخصياً إلى تعريف مغاير لكل التعريفات التي ذهبت إليها المدارس الفلسفية والفكرية والاجتماعية، وهو: «الحرية ثوب فضفاض يفصله كل فرد وحكومة وشعب على مقاسه» لذا تعددت الحريات بتعدد «الخياطين»!
علمونا أن من يأكل من الصحن لا يبصق فيه، ، وأدهشتنا الأزمة، إذ صار معظم الناس يأكلون من الصحن ثم يسرقونه ويحرمون الآخرين من الطعام، بل حتى الماء، وكذلك الهواء الذي لوثوه بكل الملوثات التي عرفها البشر في كوكبنا الأرضي.
من المسلمات التي نعرفها جميعاً، أن الوطن يحتاج إلى أبنائه كافة، وعلى المواطن أن يبذل الغالي والنفيس للدفاع عن وطنه في وجه أي خطر يداهمه، لكن عشرات الآلاف خلال هذه الأزمة تركوا الوطن في أخطر مراحله عبر التاريخ وهاجروا إلى أوروبا وغيرها من الدول، وهم ينتظرون من الذين صمموا على البقاء والدفاع عن التراب والكرامة أن يحققوا النصر ليعودوا رافعين شارة النصر كأنهم أصحابه!.
المصيبة الأعظم أن هناك من الذين لم يغادروا أقدموا (وعلى عينك يا تاجر) بسرقة لقمة المواطن، وتاجروا بدمه وحلق تجار الأزمة عالياً وازداد المواطن الفقير فقراً وصار في الحضيض، وهو وحده يدفع الثمن!.
يذكرني هذا الحال بما يمكن أن أسميها حكمة قالها الراحل الكبير محمد الماغوط الذي قال: «وحدهم الفقراء يستيقظون مبكرين قبل الجميع حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد».
الفقراء عناوينهم معروفة: فستجدهم في الحقول والبساتين يزرعون الأرض، وتجدهم في المصانع وعلى جبهات القتال، وأخيراً ستجدهم حتماً من تراب الوطن، إلى ترب(جمع تربة ومقبرة) حيث ينالون جزاءهم أخيراً و.. الفقراء يدخلون الجنة!.
هل عرفتم لماذا تهرب الكلمات مني، ولماذا بخلت علي الأبجدية؟ ومع ذلك لا أستطيع الزيادة لأن في فمي ماء، على الرغم من أزمة الماء التي يعانيها السوريون من حلب إلى دمشق، أقول قولي هذا.