من دفتر الوطن

علمٌ في الصين

| حسن م. يوسف 

عندما زرت الصين أواخر القرن الماضي عدت وأنا على يقين تام أن العملاق الصيني قد استيقظ وأنه في طريقه لإدهاش العالم بما يستطيع أن يفعل. أدهشتني المدينة المحرمة بفرادة قصورها وجمال آثارها، ووقفت ذاهلاً أمام سور الصين العظيم وغيره من الأوابد التاريخية الخالدة. إلا أن أكثر ما أدهشني خلال زيارتي تلك هو اللوحات التي توضع في مواقع إنشاء الأبنية الحديثة وقد كتب عليها تاريخ البدء في إنشاء البناء باليوم والساعة وتاريخ وموعد الانتهاء من إشادته باليوم والساعة أيضاً! والحق أنني بقيت متشككاً إزاء هذا الأمر إلى أن رأيت بأم عيني بناء راقبت الأيام الأخيرة من عملية تشييده ورأيته ساعة افتتاحه.
لهذا لم أدهش عندما نشرت جريدة الغارديان البريطانية في الثلاثين من نيسان 2015 على موقعها الإلكتروني مقالاً عن قيام إحدى شركات البناء الصينية بتشييد ناطحة سحاب برجية من سبعة وخمسين طابقا خلال تسعة عشر يوماً في تشانغشا بمقاطعة هونان في جنوب الصين، أي بمعدل ثلاثة طوابق كاملة كل يوم. والحق أنني لم أكن لأصدق ذلك لو لم تنشر الجريدة على موقعها الإلكتروني شريط فيديو يوثق بالصورة المُسَرَّعة ناطحة السحاب وهي تبنى طوبة فطوبة!
بعد هذا لم أعد أكذب شيئاً عن الشعب الصيني الجبار، لذا ابتسمت في سري عندما قرأت في الثلاثين من كانون الأول الماضي أن السلطات الصينية قد افتتحت أعلى جسر في العالم، جنوبي البلاد، بين إقليمي يونان وغيزهو، بعد أربعة أعوام من بدء تشييده. ينتصب ذلك الجسر فوق وادي بيبان جيانغ السحيق ويبلغ طوله 1340 متراً كما يبلغ ارتفاعه نحو 570 مترا، أي ما يعادل ناطحة سحاب من مئتي طابق.
الأهم من كل ما سبق هو قيام الصين خلال الشهر الماضي بإطلاق قمر صناعي للاتصالات هو الأول من نوعه في التاريخ، يعتمد على التشابك الكمي، وقد أطلقت عليه اسم الفيلسوف والعالم الصيني القديم ميكيوس. وهذا القمر الاصطناعي هو أول مركبة فضائية قادرة على توليد الفوتونات المتشابكة في الفضاء، لاستخدامها في إقامة قناة اتصال مشفرة بين بكين وفيينا تتمتع بمستوى غير مسبوق من الأمان نظراً لأنها غير قابلة للاختراق من قراصنة وسائل الاتصال. وتخطط الصين لإطلاق تسعة عشر قمراً صناعياً آخر من هذا النوع، لإنشاء شبكة اتصالات كمومية مع جميع أنحاء العالم.
جدير بالذكر أن ميكانيكا الكم هي مجموعة من النظريات الفيزيائية التي ظهرت في القرن العشرين، لتفسير الظواهر على مستوى الذرة والجسيمات دون الذرية، تدمج الخاصيّة الموجيّة بالخاصيّة الجسيميّة وصولاً للموجة –الجسيم.
تعمل ميكانيكا الكم وفق مبدأ عدم اليقين. إذ إن موضع وحركة الإلكترون، لا يمكن أن يتحددا بدقة في وقت واحد، فإذا تمكنا من تحديد موضع الإلكترون أصبحت حركته غير محددة إلا بصورة احتمالية. وهذا ما جعل العالم الشهير ريتشارد فاينمان المتخصص في هذا المجال يقول: «أظن أنه يمكنني القول بأمان إنه لا أحد يفهم ميكانيكا الكم». وقد نقل عن أينشتاين قوله «إذا كانت ميكانيكا الكم حقيقة، فإن العالم يكون قد جن».
قديماً قال الرسول العربي (ص): «اطلبوا العلم ولو في الصين» وفي هذا إشارة مضمرة إلى ندرة العلم في تلك البلاد وبعدها. غير أن إطلاق القمر الاصطناعي الصيني الذي يعتمد على ميكانيكا الكم التي «لا يفهمها أحد» يُشكِّل إشارة واضحة إلى أن البشر سيطلبون العلم قريباً في الصين، ومن دون «ولو».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن