أشقاء القهوة
حسن م. يوسف
رغم قناعتي القديمة بأن التغيير هو الثابت الوحيد في هذا العالم، إلا أنني ما أزال أفاجأ وأصدم، بالتغييرات الانقلابية التي ألمسها يومياً في سلوك وشخصيات بعض من كنت أحسب أنني أعرفهم، فرغم تشابه الظروف التي نعيشها ونتأثر بها جميعاً، إلى هذا الحد أو ذاك. إلا أن استجاباتنا للظروف المشتركة تتباين إلى حد التناقض.
قبل سنوات أرسل لي صديق استرالي من أصل عربي حكاية أحسب أنه من المفيد أن أترجمها لكم من الذاكرة.
ذهبت امرأة شابة لأمها وأخبرتها أن حياتها لم تعد تطاق وأنها تفكر بالانفصال عن زوجها. لأنها تعبت من مناكداته التي لا تنتهي. أخذت الأم ابنتها إلى المطبخ. عبأت ثلاثة أوان بالماء وأشعلت النار تحتها، بعد أن وضعت في الإناء الأول جزرة، وفي الإناء الثاني بيضة وفي الإناء الثالث حفنة من البن المطحون.
تركت الأم الأواني تغلي من دون أن تقول شيئاً. وبعد زهاء عشرين دقيقة، أطفأت النار تحت الأواني الثلاثة. أخرجت الجزرة والبيضة ووضعت كلاً منهما في صحن. ثم سكبت القهوة في فنجان. قالت الأم لابنتها هذه الأشياء الثلاثة تعرضت للظروف نفسها لكن كل منها تفاعل مع محنة الماء المغلي بشكل مختلف. فالجزرة التي كانت تبدو صلبة غيرها الغليان وحولها إلى شيء رخو، والبيضة الهشة التي كانت تحمل في داخلها مشروع حياة، ماتت إمكانية الحياة فيها وتحول ما في داخلها من سائل لزج الى جسم صلب. أما حبوب البن المطحونة، فلم تتغير فحسب بل غيرت طبيعة الماء الذي كانت تغلي فيه وأضفت عليه نكهة محببة وطعماً مستساغا.
أحسب أنك أيها القارئ العزيز تعرف كثيرين ممن يشبهون الجزرة بعد سلقها وتعرف أكثر ممن يشبهون البيضة بعد غليها، فهل تعرف كثيرين من إخوة القهوة الذين يحولون المعاناة إلى فرصة لإظهار نبيل خصالهم، فلا تغيرهم الظروف القاسية نحو الأفضل فحسب، بل تجعلهم يضفون الكثير من نبلهم على محيطهم الذي غالباً ما يكون سبب معاناتهم.
خلال الشهر الماضي انتقل إلى دار الحق واحد من إخوة القهوة هو المربي محمد علي إبراهيم أحمد من بحنين طرطوس، الذي ترك بصمة لا تمحى على أجيال عديدة من السوريين في أربع جهات الوطن، فعن أمثال هذا الأستاذ الجليل كان أحمد شوقي يتحدث عندما قال: «كاد المعلم أن يكون رسولا»، فقد ظل طوال حياته يعتبر أنه ليس مجرد موظف بل صاحب رسالة. إذ عندما عين في منبج بريف حلب بُعيد الاستقلال كان قدوة في تفانيه، ورغم محدودية راتبه قام بإهداء كل أولياء أمور تلاميذه نسخاً من القرآن الكريم ونهج البلاغة، وترك سمعة عطرة حيثما حل، وقد أخبرني ابن ذلك المربي الفاضل الصديق ياسين أحمد أن الشيخ دياب الماشي عضو مجلس الشعب قد زار منزل أهله في بحنين يوم العاشر من حزيران 2003 مع عدد من أعضاء مجلس الشعب في حلب للاطمئنان على صحة «الأستاذ» وقد انحنى ذلك الشيخ الجليل لدقائق عند مدخل ذلك البيت المتواضع، ولم يستطع أن يمنع دموعه عن التعبير عن امتنانه للرجل الذي علَّم أبناء منطقته.
اللافت حقاً أن هذا المربي الفاضل قام بعد أن بلغ الثمانين بتأليف كتاب بعنوان «الأدوات في اللغة العربية» وضع فيه خلاصة خبرته اللغوية، وقد وفر تكاليف طباعة ذلك الكتاب من راتبه التقاعدي الزهيد، ووزعه على المدارس مجاناً، وقدم لوزارة التربية 500 نسخة وإلى التعليم العالي 400 نسخة وإلى وزارة الثقافة 200 نسخة، ورفض أن يتقاضى عن تلك النسخ قرشاً واحداً. وقد صاغ فلسفته في الحياة شعراً إذ قال: «عن العلمِ لا تكسلْ، ولا تكُ لاهياً / وجِدْ إلى العلياء بالتعبِ المرِّ /فإنَّ العلا لا ترتقيها براحةٍ / ولا بدَّ دون اليسر من ألم العسرِ».
وقد خاطب هذا المربي زملاءه أعضاء أسرة التعليم في الوطن العربي بقوله:
«لكم أسرة التعليمِ في الوطنِ الفضلُ / ومنكم إلى الأجيال ِينبعثُ العقلُ/ إذا ما نهضتم تنهضُ الأرضُ كلها / وإن قلتم فالقولُ يتبعهُ الفعلُ».
تحية عطرة لكل أشقاء القهوة في حياتنا.