الطربوش والرؤساء.. رمز اجتماعي وثقافي بأبعاد فكرية وسياسية
| شمس الدين العجلاني
اهتم الكثير من الشعوب عبر التاريخ بغطاء الرأس لدى الرجال إذ لعبت ظروف العيش وطبيعة المكان والمناخ بنوعية وطبيعة هذا الغطاء وهو يختلف باختلاف عمل ومكانة مرتديه، لكن الطربوش احتل حيزاً مهماً لدى الكثيرين لارتدائه واعتبر من اللباس الرسمي خلال فترة الاحتلال العثماني، على طول مدته، بين رجال الدولة والسياسيين وفرض على موظفي الدولة آنذاك، وأخذ أغلب الناس بالتباهي بارتدائه.
اندثر لباس الطربوش، ولم يعد يستعمل إلا لدى عدد من رجال الدين ويضعون حوله «لفة» بلون أبيض أو أخضر أو من قماش الأغباني.
انتشر الطربوش قبيل القرن التاسع عشر إبان فترة الاحتلال العثماني وكان في ذاك الوقت لباساً ضرورياً لاستكمال المظهر الرسمي. وكان في لبسه دلالة للكثيرين ممن اعتمروه على موقعهم الاجتماعي وتعبيراً عن أهميتهم ومكانتهم الاجتماعية إلى جانب أن الطربوش كان يميز من يشغل وظيفة رسمية عالية عن العامة، فرؤساء الدولة والوزارات والوزراء وكبار الموظفين أيا كانت اعتقاداتهم اعتمدوا الطربوش زياً وحرصوا على وضعه على رؤوسهم.
كان للطربوش في بلادنا دلالات؟ فقد كانت طرابيش المسؤولين ذات لون أحمر داكن قليلاً، ويوضع على الرأس بشكل مستقيم لا يتحرك، والشراشيب فيه دائماً إلى الخلف.
كان الطربوش يحدد الانتماء الجغرافي في بلاد الشام فطربوش نابلس يختلف عن طربوش دمشق، فالأول أكثر دكنة وأطول إضافة إلى أن نهايته أدق.. أما طربوش دمشق فأقصر من حيث الارتفاع وأكثر توهجاً، وكذلك الأمر فهنالك شيء من الاختلاف بين طربوش دمشق وبيروت والأردن.
وكان الطربوش أيضاً رمزاً للثقافة والمستوى الاجتماعي، ورمزاً لأغراض فكرية وسياسية، فقد كان في دلالته السياسية شعار الاحتلال العثماني في بلادنا.. بالمحصلة قد لا يكون من المبالغة القول: إن الطرابيش كانت لها دلالات وتحكي قصصاً وسيراً وحكايات، حيث تعبر عن الفرح أو الحزن أو الغضب، وإن كانت لا تنطق.
ولم يزل الطربوش يروي لنا القصص التي «تطربنا» ويروي لنا في أحيان كثيرة حكايات طريفة أو قصصاً سياسية، فيبدو أنه كان لهذا الطربوش شأن سياسي؟
الطربوش السياسي
من ذاكرتنا السياسية نقتطف بعض الحكايات من تاريخنا التي ترتبط بذكر الطربوش:
ذكرت سجلات القنصلية الفرنسية في بيروت بتاريخ نيسان سنة 1830 إن:
(حاكم بيروت تلقى أمراً بأن يترك العمامة الكبيرة ويجعل لباس الرأس لجميع المواطنين طربوشاً أحمر بسيطاً).
و كذلك في بدء مرحلة الانتداب الفرنسي ظهرت حركة ضد الطربوش بقصد الاستغناء عنه واستبداله بلباس رأس وطني خاص بالسوريين ( الفيصلية التي ارتداها الملك فيصل الأول)، على غرار العراقيين الذين درجوا على لبسه بحجة أن الطربوش هو لباس دخيل مأخوذ عن «الأجانب»، وأن الطربوش لا يوافق صحة الأفراد في الصيف ولا في الشتاء فهو يحبس تنفس الرأس! وأنه ليس من مصنوعات البلاد. ولكن هذه الحركة المناوئة للطربوش لم تنجح.
مكتب عنبر والطربوش
يقع مكتب عنبر شرقي الجامع الأموي في دمشق، وهو بناء متميز ومبني بإتقان، مستطيل الشكل مساحته خمسة آلاف متر مربعة، وهو مقسَّم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، كل قسم له باحته الخاصة به (ديار) التي تحيط به الغرف والتي يبلغ مجموعها أربعين غرفة موزعة على طابقين، ويعد تحفة ونموذجاً جميلاً للبيت الدمشقي. وهو بالأصل منزل شيد على الطراز الدمشقي الشهير (بيت عربي تقليدي)، وقد بناه ثري يهودي دمشقي اسمه يوسف عنبر سنة 1872م، وأنفق على إنشائه 42 ألف ليرة سورية، وقد كان هذا المبلغ كبيراً جداً وله قيمة كبيرة في تلك الأيام، ولم يستطع صاحب المنزل إكمال بنائه فهجره سنة 1887، فاستولى العثمانيون على المنزل بسبب الدَيْن مع صاحبه، فأضافوا جناحين للمنزل، ثم حولوه إلى مدرسة «صبيان»« أو كما سمي مكتب (مكان الكتابة أو الدراسة)، فكان مكتب عنبر من أقدم المدراس في سورية وأعرقها تخرج فيه أهم رجالات الشام. وكانت إدارة «مكتب عنبر» تمنح الخريج طربوشاً إهداءً منها مع شهادة التخرج ولذلك فإن معظم الذين تخرجوا فيه وأولئك الذين تقلدوا مناصب في دمشق وبيروت وطرابلس وعمان والقدس ونابلس كانوا يرتدون (الطرابيش).
الشهيد رفيق سلوم والطربوش
هو رفيق بن موسى رزق سلوم، حقوقي وأديب وشاعر، كان واحداً من أحرار العرب في العهد التركي، وُلِدَ في مدينة حمص، وتلقَّى تعليم المرحلة الابتدائية في المدرسة الأرثوذكسية (الروسية)، ورُشح لدرجة الكهنوت إعجابا بنبوغه وذكائه، فلبس الثوب الرهباني في دير «البلمند» في لبنان، ونالَ درجة الكهنوتية ليعود إلى حمص مدرِّسـاً فيها، غيرَ أن حبه للعروبة والعلم دفعاه للسفر من جديد إلى بيروت لدراسة الحقوق في الجامعة الأميركية، ثم انتقلَ إلى الآستانة ليتابع دراسة الحقوق تجاوباً مع رغبة صديقه الشيخ عبدالحميد الزهراوي، وهناك بدأ يكتب في الصحف والمجلات، ذات الصبغة السياسية والفكرية آنذاك وأبرزها: «المقتطف»، «القبس»، «المنارة»، «المهذب»، «المفيد»، «حمص»، «لسان العرب».
رفيق هو واحد من شهداء 6 أيار عام 1916م بدمشق حين قام الأتراك بإعدام عدد من خيرة شبابنا في ساحة المرجة إبان نهاية الحرب العالمية الأولى بتهمة الانتماء إلى الوطن والعروبة!؟
يقول شاهد عيان على إعدام رفيق رزق سلوم وهو الجنرال «علي فؤاد أردن» رئيس أركان الجيش الرابع العثماني الذي كان قائده جمال باشا السفاح قال: سار الشهيد رفيق سلوم «ولم يكن يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر» إلى المشنقة بخطوات ثابتة سريعة، فما أن تلقاه المأمور الذي تولى شنقه حتى رمى طربوشه إلى الأرض، لكن رفيقاً صاح به غاضباً: ردوا إليَّ الطربوش، لا يحق لكم أن ترموه على الأرض، فأذعنوا لطلبه ووضعوا الطربوش على رأسه كما طلب ثم أعدموه. قال الشاهد كنت أمعن النظر بالشاب الذي أبدى من الشجاعة ورباطة الجأش ما يحيِّر العقول فطربوشه طربوش العز والفخار.
الرئيس الشيخ تاج والطربوش
هو الشيخ محمد تاج الدين الحسني رجل الدين والسياسة وثالث رئيس للدولة السورية، من مواليد دمشق سنة 1890م، والده الشيخ محمد بدر الدين الحسني، محدث الديار الشامية (جاء في تقرير لفضائية الجديد اللبنانية أذاعته مساء 12/12/2012 أن الشيخ تاج الدين الحسني هو «دوماني» من مواليد دوما).
تعود جذوره إلى مدينة مراكش في المغرب. فوالده من مواليد مراكش، والشيخ تاج هو رجل الدين الوحيد الذي شغل مناصب رفيعة في الدولة السوريّة، وحين تقلد رئاسة سورية لم يكن يناهز الأربعين من عمره بعد، وهو قصير القامة ممتلئ الجسم مستدير الوجه صغير العينين والشاربين وله ذقن صغيرة خفيفة الشعر ويداه صغيرتان ناعمتان. يلبس الملابس الإفرنجية وهو شديد التأنق بملبسه، دقيق العناية في اختيار ألوان ملابسه، يلبس طربوشاً حوله لفافة من القماش الأبيض على منوال مسلمي الشام ولكنه عندما يكون مقيماً في صوفر بلبنان حيث كانت تمضي أسرته فصل الصيف يستعيض عن العمامة «بالقلبق» ولا يجد غضاضة في ارتداء البذلة السوداء المعروفة «بالسموكنج» إذا كان سيحضر حفلة ساهرة في كازينو صوفر. وعندما يبرح داره أو ديوانه يرتدي فوق بذلته معطفاً يصل إلى تحت ركبتيه(الساكو).
الرئيس حقي العظم والطربوش
حقي العظم هو من مواليد عام 1864م وتوفي عام 1955م، كان أول رئيس للوزراء في عهد الجمهورية السورية وحاكم دولة دمشق وترأس مجلس الشورى مرتين. نال علومه في دمشق وإسطنبول وتدرج في سلك الوظائف الحكومية في الدولة العثمانية في دمشق وإسطنبول ومصر حتى عام1911م حين استقال من جمعية الاتحاد والترقي وانتقل إلى معارضة الحكم العثماني والمطالبة باللامركزية الإدارية. بعد الحرب العالمية الأولى ودخول سورية تحت الانتداب الفرنسي، عاد إلى دمشق وأصبح من المقربين للمفوضية الاستعمارية الفرنسية ومن أشد المعارضين للكتلة الوطنية آنذاك، ما أهلَه لتبوؤ مناصب مهمة أبرزها حاكم دولة دمشق ورئيس الوزراء.
ويحكى عن طربوش حاكم دمشق حقي العظم، أنه في عام 1921م كان الاحتلال الفرنسي قد عينه حاكماً لما سمي في ذلك الوقت «دولة دمشق».. وفي دعوة على الغداء حضرها الحاكم العظم وكانت تضم كبار الشخصيات السياسية السورية حينها ومنهم فارس الخوري… وبعد الانتهاء من دعوة الغداء خرج فارس الخوري قبل المدعوين ووضع طربوش حاكم دمشق على رأسه أولاً ثم وضع طربوشه « وكان كبيراً لضخامة رأس فارس الخوري « فوق طربوش الحاكم وبذا اختفى الطربوش الصغير لحاكم دمشق العظم، وعند انصراف المدعوين وعلى رأسهم الحاكم تحرى عن طربوشه فلم يجده.. فشاركه في التحري عنه جميع الحاضرين وبدأت الولولة والارتباك بين الحضور.. ماذا حل بطربوش الحاكم؟؟!! وفارس الخوري يتفرج على النكتة الطريفة.. وبعد برهة من الزمن انبرى فارس الخوري وقال: إنه أسف لأنه نسي طربوش دولة الحاكم في طربوشه ولم يشعر بوجوده إلا عندما تحروا عنه!؟ وكشف عن رأسه، وأخرج طربوش الحاكم الصغير وقدمه له، فامتعض الحاكم امتعاضاً شديداً لأن مغزى هذه الحركة كان واضحاً بأن رأس الحكم كان صغيراً كما أن دماغه كان بنسبة صغر ذلك الطربوش.. وكانت النكتة ميداناً فسيحاً بين الناس بدمشق للتنكيت والتعليق وأن فارس الخوري قد أثبت كون حاكم الدولة من أصحاب العقول الفارغة.