البادئ أظلم… فمن هو؟!
غسان كامل ونوس
البادئ أظلم!
لكن.. من البادئ؟!
من الذي اعتدى أولاً: الطبيعة أم الإنسان؟!
سؤال ليس من العدل أن يبقى جوابه رهن تشكّي أحد الطرفين؛ فيما لو علمَ الطرف الأول الكلامَ، لتكلّم!
لهذا تبقى القضيّة قائمة ضدّ مُدانٍ بلا محاكمة، ويبقى العدوان متواصلاً بوتيرة أعلى، وخسائر أكثر فداحة.
لم ترحم الطبيعة الإنسان؛ أم لم تكفّ الطبيعة عن ممارسة طقوسها المعروفة، التي تضرب ذات عاصفة، أو ذات اهتزاز؟! ولم ترحم كائناتها الأخرى، التي لا تستطيع التعبير؛ إلا بالارتعاش والالتجاء الغريزيّ إلى ما قد يقي، وتتشبّث بالعناصر، وأقدرِها على حفظ المخبوءات الحيويّة إمكانياتٍ معتّقةً أو خصباً مرجى، أو نبضاً نائساً، لا يلبث أن ينتفض بعد حين!
العاقل؛ سيّدها، معجزةُ وهمِها، الذي تأخّر التبشيرُ به، وقد جاء من رحمها، أو هبط في حضنها، بعد ما أُنهكتْ، أو بعد أن تمرّست بالتخليق، وازدادت خبرة وحنكة وحيويّة، حمّلتْه خلاصتها، وتَمَثَّلَها في اضطرابه وقلقلته، هدوئه وسكونه، في مغامراته التي لا تنتهي، رغم ضياع بعض أفراده ضحايا؛ ربّما تفوّق عليها في تساؤله، وتلفُّته، وتمرّده.. لم يرحم الكائنات الأخرى هو أيضاً، ولم يرقّ لحالها؛ اصطادها، وامتهنها، ودجّنها، وامتطاها في صولاته المجنونة للبحث والاكتشاف، لامتلاك الكرة الدائخة، والسعي في مناكبها، والدَّبِّ في براريها الغابيّة والعارية، والتخويض في بحارها الساكنة والعارمة، والتصعيد في سفوحها وهضابها، والخَبِّ في سهولها ووديانها، شدّ آفاقها إليه، أو تعلّق بعُرمُطِها، وقد نَفَذَ من طبقاتها بسلطان أو أكثر..
برمَ بطقوسها التي جاءت به، وبسواه من أشكال الحياة النابتة والمتحرّكة، مستذكراً ما كان منه، مستدبراً فيها، وقد مرّ بالمراحل كلّها، تجاوزها كلّها.. لم يرتضِ الاستسلام، ولم ينصعْ لقوانينها ونزواتها، ولم يتوقّفْ عند تضاريسها ومنعطفاتها، ولم يكتفِ بركوب أعالي بحارها، وقد أنار لياليها، برغم القمر الذي عزّت عليه نفسه، وكفكف ضياءه، بعد ما فُضّ غلافه، وديس سطحه.. ولم تشبعه فضاءاتها؛ فطار إلى أخواتها من كرات البُعد والغموض، مزنّرة بحزام ضوئيّ، أو محلاة بأقمار لائذة، وسيّارات قد لا تعوذ؛ أو مرصودة بنيازك وشهب محمومة..
من الذي اعتدى أوّلاً؟! وهل كان المقصودَ بالاضطراب والفيضان، حتّى يحاول كمّ الثغور، وتحديد الجريان، والسيل بحسبان؟!
وهل اكتشاف الغابات مدعاة للحدّ من كثافة الخضرة، والسعي إلى مزيد من الاحتطاب؟!
فهل كان –ما يزال- عاقّاً، فيعضّ على ضروعها، فتخرج عن طور الأمومة، وتسعى بشراسة الحضن المهجور، والخِلِّ المغدور للانتقام والتشفّي؟! وهل كان التصحّر شكلاً من غضبها، واندلاع البراكين بعضاً من نفثاتها؟!
أم على أهلها جنت «براقش»؟!
تعمّق من أجل الذهب؛ أسودِه وأصفرِه، واختصم، وتعملق أبراجاً وتحليقاً، وانقضّ وانهدم. نسي مغاور البرد، ومحاريب الرشد، وزوايا الزهد، وغادر بيادر القول المدّاح والصوت الصدّاح. وضلّ التبّانةُ دروبهم الأرضيّة، وسُموتَهُم السماويّة..
ومن الحواضر المنسيّة، وأحزمة الفقر المشدودة حول المدن الغافلة، والأضواء الرافلة، خرج محموماً بإزار حول خصره، لا زينة ولا رصيداً؛ بل بَرِماً بأرواح أخرى لا حول لها ولا قرار! لعلّه يحظى في ردهات الغيب بصاحباتِ الأعينِ ساحرةِ الاحورار!
لم تغيّر الطبيعة من عاداتها؛ هل غالت بها أحياناً على حساب الضعفاء والفاقدين ما يحصّن، ويرمّم؟! هي لم تَعِد بسوى ذلك؛ لم يسألها أحد، ولم يستشرْها مخلوق؛ فهمْ من أوردتها رضعوا، ومن أعصابها تحسّسوا، ومن قُوْتِها تغذّوا، ومن أزهارها رحِقوا، وفي أوحالها خوّضوا، وعلى أعتابها احتشدوا، وتضاغطوا، وهم الذين عقّوا، وفسقوا، وأضاؤوا، واحترقوا!
العبث بالعبث، والجنون بالجنون، والبادئ أظلم؛ فالابن الذي خلق على مثال صورة الإله، غالى في جموحه، وتطرّف في جنوحه، حتّى كانت روحه من بين ضحاياه؛ أم كانت مطيّتَه إلى العالم السفلي، الذي لا نهوض بعده!!