قراءة في خطاب ترامب.. ضربة عالحافر وضربة عالمسمار
| فرنسا- فراس عزيز ديب
هكذا باتَ «دونالد ترامب» وبصورةٍ رسمية الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية. حفل تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب عكسَ حالَ التوتر الذي يعيشه الداخل الأميركي، فعادةً ما يكون لحفلِ التنصيب أهمية كبيرة في الداخلِ الأميركي خاصةً والعالم بصورةٍ عامة. عملياً يكتسب حفل التنصيب أهميته من خلالِ حضورِ شخصياتٍ «وازنة» من المجتمع الأميركي، تحديداً تلك التي تمتلك شعبية جارفة (لا أحب استخدام مصطلح «نخب»)، التي يشدّ الرئيس بها أزره، أو من خلالِ الخطاب الذي يلقيه الرئيس والذي يبدو أشبهَ بالخطوطِ العريضةِ لولايته الانتخابية.
في حفلِ تنصيبِ «ترامب» كان واضحاً خلوه من الشخصيات «الوازنة»، هذا الأمر بدا مفهوماً تحديداً أن معظم هؤلاء يعارضون خطاباته وتوجهاته، لكن بالنهاية عليهم أن يعوا أن الأمر هو خيار الناخب الأميركي، تحديداً أن التظاهرات التي تزامنت مع حفل التنصيب هي بالنهاية الصورة «العُنفية» لرفض نتائج الانتخابات. من ثم لا يبدو أن الولايات المتحدة بحاجةٍ للمزيدِ من التحريض على المستوى الداخلي لا من خلال تلك الشخصيات، ولا من خلال المواطنين العاديين، والوضع ليس بالسهولةِ التي يتصورها البعض والمشكلة لا تبدو مشكلةَ مجتمعٍ أميركي فحسب، المشكلة عابرة للقارات عنوانها العريض (صعود المد المتطرف)، أياً كانت توجهاته؛ ديني أم قومي. النقطة الثانية وهي الخطاب الذي ألقاه «ترامب»، تحديداً أن العبارات التي رسمَ بها ملامحَ سياستهِ القادمة تأتي فعلاً في ظروف ليست عادية على جميع الصعد، بما فيها الترِكة الثقيلة لسلفهِ «أوباما» في السياسة الخارجية، فما النقاط التي يجب الوقوف عندها؟
لم يكن إعلان «ترامب» عن «العمل لإعادة السلطات إلى الشعب الأميركي» إلا تعبيراً حازماً عن فتحهِ معركة سياسيةٍ مع ما يسمونها اصطلاحاً «الدولة العميقة» المتهمة بتشعباتها كافة بمصادرةِ القرار الرسمي وتفريغ الخيارات الشعبية من محتواها.
هذه المعركة ستضع مصداقية «ترامب» على المحك في الشأن الداخلي، تحديداً أن التاريخ علمنا ليس فقط في الولايات المتحدة لكن في العديد من الأنظمة السياسية التي ضربت فيها «الدولة العميقة» أطنابها، أن المنتفعين من سياق سياسي كهذا لا يسمحونَ للرئيس ولا لغيره إلا بالحدِّ الأدنى من الخروج عن النص، من ثم فإن مواجهة كهذه إن تمت فهي لن تحدِّد فقط مصير «ترامب» في انتخابات 2020، لكنها ستوضح ما ستؤول إليه هذه الولاية أساساً، دون أن نغفل تساؤلاً منطقياً فرضه إيقاع «ترامب» الحماسي:
كيف لملياردير بنى ثروتهُ في حضنِ هذا النظام السياسي أن يتحدث وكأنه آتٍ من زمن الثورات اليسارية التي تبنت «صوت الشعب» و«ما يريده الشعب»، ربما هذا الأمر هو نوعٌ من التناقض، لكن متى كانت الولايات المتحدة لا تقوم إلا على مجموعةٍ من التناقضات؟ حتى إمكانية المواجهة بينه وبين المتحكمين بصناعةِ القرار يبدو وكأنه فرَّغها من محتواها والقصة بسيطة: إذا كان هؤلاء المتحكمون أساساً هم من أشرس المدافعين عن «إسرائيل» فهو في الأساس قدم لـ«إسرائيل» ما لم يقدمهُ أحد، حتى وعوده بما يتعلق بالحوار الجديّ مع الروس الذي يشكل سبب المواجهة الأبرز يبدو وكأنه لا يتعارض مع دعم «إسرائيل». من جهةٍ ثانية، فإن إصرار «ترامب» على رفعِ شعار «أميركا أولاً»، لا يبدو بالمطلق نوعاً من السذاجةِ الفكرية أو التسرع الذي عادةً ما يتهمه بهِ كارهوه؛ منذ أن كانوا يظنونه «ظاهرة صوتية» لا أكثر كانوا ينظرون للحالة «الترامبية» في إطارها الضيق. بالنهاية هذا الخطاب هو امتدادٌ للخطابات التي باتت ترى الليبرالية الاقتصادية التي أنتجت أوطاناً بلا حدود نوعاً من أنواع الوهن الذي يصيب «الدولة الوطنية»، وأميركا لن تكون وحدها «أولاً» فالأيام آتيةٌ وسنسمع «فرنسا أولاً» و«ألمانيا أولاً» والقصة لن تتوقف عند هذا الحد، إنها بدايةٌ لما سيكون عليه النظام العالمي في القرن الحالي، أي العودة تباعاً لمفهوم «الدولة الوطنية»، وإن شعار «أميركا أولاً» قد لا يعني فقط الحرب على الهجرة أو طرد المهاجرين غير الشرعيين، هذا الأمر قد يعني فيما يعنيه أن أميركا قد تتجه فعلياً لتقليص النفقات المخصصة للحروب والصراعات، وإعادة تدوير هذه الأموال واستثمارها بما يعالج المشكلات الاقتصادية في المجتمع الأميركي، فالمشكلات التي يعاني منها هذا المجتمع وصلت إلى حد (الانشقاق) حسب تعبير «ترامب» ذات نفسه، والانكفاء نحو الداخل قد يعيد خلط الأوراق والنهوضَ من جديدٍ ببنيةِ المجتمع المفكك، فهل هذا يعني أن زمنَ الحروب الأميركية سواء المباشرة أم غير المباشرة قد انتهى؟
المباشرة حكماً ستتوقف، أما غير المباشرة فستستمر، لكن الولايات المتحدة حتى في حروبها غير المباشرة قادرةٌ دائماً على ابتكار الوسائل. من خلالِ كلام «ترامب» يمكننا أن نقرأ ما بين السطور عدوين أساسيين للإدارة الأميركية القادمة، لكل منهما وسيلةَ مواجهةٍ جديدة.
أولاً: إن وصول «ترامب» كشخصية ثرية قادمة من عالم المال والأعمال تتيح له تبديلاً ما في المنهجية التقليدية للحروب الأميركية، وهذه المرة ستكون بالاقتصاد والهدف ليس الروس بل الصينيون لأنهم عدوه الأول، فعلى عكسِ تبادل رسائل الغزل مع الروس فإن الوضع مع الصين لم يكن كذلك، هو بدأ ولايتهُ باستفزاز الصينيين عبر تلقيهِ اتصالاً من رئيسةِ تايوان. النقطة الثانية أن «ترامب» في النهاية رجل أعمال لا يرى بالصين أكثر مما يراه في أي شركةٍ تنافس تجارته وطموحاتهِ الاقتصادية، هو يدرك تماماً أن لا خوف آتٍ من جهتهم خارج السياق الاقتصادي. بمعزل عن مدى صحةِ نظرته، علينا أن نعترف أنه يستند في النهاية إلى قوةِ الاقتصاد الأميركي الذي أثبت في العقد الأخير تحديداً أنه يمرض لكن لا يموت، وأن أهم ما يميزه هو مصادرهُ المتعددة التي لا يستطيع أحد لي ذراع الولايات المتحدة بهم جميعاً، قد ينجح في ذلك لكن هذا النجاح يتطلب أساساً ضغطاً للنفقات العسكرية، فهل هذا يعني تلزيم الحرب على الإرهاب وبقاء الولايات المتحدة بصورةٍ رمزيةٍ في الواجهة؟
ثانياً: كان لافتاً أن «ترامب» في معرضِ تحديد الأعداء المباشَرين، استخدم تعبير «الإسلام الراديكالي المتطرف والعنيف»، لم يتحدث كما جرت العادة عن «الحرب على الإسلام» أو «منع المسلمين» من دخول أميركا، ربما أدركَ في النهاية أن كلام الحملات الانتخابية شيءٌ وكلامهِ كرئيسٍ شيءٌ آخر. إن استخدام ترامب لتعبير «الإسلام الراديكالي» أمرٌ بحاجةٍ للوقوف عنده مطولاً، إذ ما «الراديكالية الإسلامية» من وجهة نظر «ترامب»؟!
استخدامه لهذا المصطلح يحمل في طياتهِ العديد من التساؤلات، فمن يقصد بالتحديد؟ لأن الإسلام «الراديكالي» بمعناه السياسي قد لا يقتصر على «التطرف» بمعنى العنف القاتل، وإذا أردنا أن نستطردَ أكثر فإن الأدبيات السياسية بما فيها المناهج الجامعية في الغرب تصنِّف إيران كدولةٍ «راديكالية». فهل أن هذا الأمر هو رسالةٌ استباقية تحديداً أن «ترامب» يتبنى خطاباً تصعيدياً معها، من بينها ادعاؤه العمل على تطوير صواريخ لمواجهة الخطرين الكوري والإيراني، لاقته إيران في منتصف الطريق عندما أصرَّت على رفضِها الحضور الأميركي لمحادثات «الأستانا» رغم أن المنطق يفترض منحَ الإدارة الجديدة فرصةً ما لتبديل الأولويات.
أما مصطلحا «التطرف والعنف»، فهما كذلك الأمر بحاجةٍ إلى شرحٍ من إدارة «ترامب»، فإذا افترضنا أنه يعني بهما تلك الجماعات المتطرفة التي لا حدود «جيوسياسية» لها ولطموحاتها، فهل أن حربه عليها ستقتصر على «داعش» و«النصرة» فقط؟ وماذا عن البقية كالحركة الأم لكل هذه التنظيمات «الإخوان المسلمين»؟ أم إنها ستمتد لتصل لكل لأنظمة التي تدعمها انطلاقاً من ذات المنهجية المتطرفة، كـ«داعش» التي ترتدي ربطة عنق- «العدالة والتنمية» أو «داعش» البيضاء «آل سعود»، تحديداً أن «آل سعود» أحبوا أن يفتتحوا ولايته بادعائِهم حصولَ هجومٍ إرهابي في «جدة»، ليظهروا منذ البداية بمظهر الضحية. هذه الأسئلة التي خلَّفها الخطاب تبدو مهمة، ويبدو أنها ستأخذ وقتاً حتى يأتي الجواب عليها، فماذا ينتظرنا؟
في الإطار العام بدا خطاب «ترامب» حماسياً لا يُصرف بالسياسة، وبمعنى آخر حتى مطلع الأسبوع القادم سيبدأ العمل الجدي لإدارته، وقد يبدأ باعتماد سياسة (ضربة عالحافر وضربة عالمسمار) بمعنى أنه سيعطي في مكانٍ ويأخذ في أمكنة، سيعطي لـ«إسرائيل» سفارة أميركية في القدس المحتلة، لكن ماذا سيأخذ للطرف المقابل؟! قد يبدو للبعض أن «ترامب» سيصبح رقماً في عداد الرؤساء الأميركيين، إلا أنه من الواضح سيُصبِح علامةً بغض النظر عن الطريقة والأسلوب.. لكن كيف ومتى؟ ربما لن يطول الأمر، حتى لو طالَ موعدَ لقائِه بالرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»…