ثقافة وفن

لا تدع قلبك يتعلق بأحد 

| هبة الله الغلاييني

يبدأ تعلقك كغيرك من الناس منذ بداية نشأتك بأمك، التي يقترن عالمك بعالمها. كلما ابتعدت عنها بكيت، فإذا عادت إليك عادت دنياك من جديد، ثم في مراحل النمو المختلفة تتعلق بأبيك، وترى فيه صورة الرجل البطل الذي يقدم لك كل شيء تعجز عن فعله، بعد ذلك تصبح لديك عائلة أكبر تحبك وتغدق عليك بالحنان والعطف، فيتولد لديك الشخص النموذج الذي تسعى أن تكون مثله. ثم ينطلق المرء ويخرج من بيت الأسرة إلى فضاء المدرسة، فيتعلق قلبه بكثير من الأصدقاء والأقران والمعلمات والأساتذة، ويرى فيهم الشخصية التي يرغب في أن يكونها، ثم تأتي المراهقة بعواصفها فتتناثر عليك التعلقات من أماكن شتى فتتعلق بالأبطال والممثلين والمطربين فلماذا يحدث كل ذلك الشيء؟، هناك مراحل من التعلقات نمر بها:
* التعلق السوي: يرى أكثر العلماء الذين اهتموا بدراسة التعلق بين الطفل والأم أن دوافع التعلق دافع أساسي كدوافع الجوع والعطش، فعلاقة الطفل بأمه ضرورية لنموه كضرورة الغذاء والشراب، فالتعلق خاصية إنسانية، بل خاصيته حيوانية تبدأ مع الحيوان منذ ولادته. وقد أجرى (لورنز) دراسته على الطيور، فتوصل إلى أنه يمكن ملاحظة ميل قوي عند صغار البط والإوز، إلى اتباع أي شيء يتحرك في مجالها البصري.
* التعلق المرضي: هو الميل المبالغ فيه إلى شيء ما، إنساناً كان أو شيئاً آخر، بحيث يفقد المتعلق استقلاليته، ويتبع المتعلق به تبعية كاملة، وكأنما تذوب شخصيته عنده. ويمكن أن تكون المتعلقات في مراحل عمرية متقاربة أو متباعدة.
لكن كيف نميز بين الصداقة والتعلق؟!!.
الأصل في الصداقة شدة التشابه في الطباع، والتقارب في الأفكار والعادات بين الأصدقاء. وقد حثّ الدين والعقل والعلم على الصداقة، باعتبارها مطلباً مهماً من مطالب النمو الإنساني، فالصداقة السوية والحب السوي يرحب بهما المجتمع والعرف والعادات والتقاليد، فتنتقل إلى شيء آخر له خصائص أخرى. والحب أيضاً إذا تجاوز حده المعقول، ينتقل إلى تعلق مرضي سلبي غير مرغوب فيه وهناك خصائص مشتركة بين الحب والصداقة:
مثل الاستمتاع برفقة الطرف الآخر، وتقبل الطرف الآخر كما هو والثقة بحرص كل طرف على الطرف الآخر، والاحترام المتبادل والتلقائية والإيضاح عن الخبرات والمشاعر الشخصية.
فالتعلق المرضي له أسباب عدة منها:
• الحرمان العاطفي في الأسرة: سواء أكان بسبب خلافات أسرية أم تربية خاطئة تمنع الآباء من إظهار عواطفهم لأبنائهم.
• التأثر بالشخصيات من حولك: ومنها نماذج أسرية مثل الأب، والأم، الأخوات، الإخوة، الأعمام، العمات، الأخوال، الخالات، نماذج الرفاق في الحي أو المدرسة أو العمل، نماذج إعلامية مثل أبطال الأفلام أو المسلسلات أو البرامج أو الأغاني، نماذج مقروءة، مثل أبطال القصص والروايات.
• ضعف الثقة بالنفس: والبحث عن شخصية يتوحد فيها لكي يشعر بشيء من القوة.
• وفرة التعزيز في العلاقة: فإذا كان الفرد يشعر بالحرمان، ثم يجد لذة بالغة في تعلقه المرضي، فستكون هذه اللذة دافعاً لاستمرار العلاقة.
• اضطراب الشخصية: هناك اضطرابات خاصة في الشخصية يمكن أن تؤدي إلى التعلق المرضي مثل الشخصية الاعتمادية، التي بطبعها تبحث عمن يسيرها وتدور حوله، وكثير من التعلقات المرضية تنشأ بسبب اعتمادية كامنة.
ولكل مرض علاج خاص به، فما طرق العلاج للتعلق المرضي:
• البحث عن الأسباب: لماذا أنت متعلق بهذا الشخص، عليك أن تبحث عن الأسباب الخاصة التي تدفعك إلى التعلق.. هل هو الفراغ العاطفي، أو التقليد، أو البحث عن علاقة حب… وفائدة معرفة الأسباب أن نسعى إلى معالجتها بأساليب صحيحة لتكون بديلاً من الأسباب الخاطئة.
• التفكير في النهايات: كل بداية لذيذة ممتعة، لأنها تكون بداية ممتلئة بالرغبة محلقة في الآمال، غير أن النهايات هي التي تحدد قيمة كل شيء. وبداية العلاقة الغرامية ممتعة، ولكن نهايتها إن لم تتوج بارتباط، فهي ممتعة جداً، وقد تؤدي إلى الهلاك.
• التفكير في نقائص الطرف الآخر: لأن التعلق يعتمد على إلباس الطرف الآخر ما ليس فيه من المحاسن، ونفي ما هو فيه من المساوئ، فإذا أمعنت في التفكير في النقائص البشرية لمن تعلق قلبك به، أمكنك أن تخرج من طغيان سحره عليك وبالتالي تخرج من حالة التعلق.
• التقليل من التعميم المفرط: حين تتعلق بشخص ما، لاستخدام الألفاظ بالصورة الدقيقة، فقد نقول عنه: (أفضل مخلوق على وجه الأرض)، أو (أجمل النساء وأفضلهن)، واستخدم اللغة بهذه الصورة المفرطة في التعميم سيضلل المتعلق، بينما إذا وضعنا الصورة في إطارها الصحيح واستخدامنا لها الألفاظ المناسبة، أمكن الوصول إلى حل: مثل: (إنها إنسان جميلة، لكن هناك من هو أجمل منها)، أو (إن له حسنات كثيرة، وله سيئات أيضاً).
إن وصف الشخص بجمل حقيقية محددة أقرب إلى الواقع، هو مرحلة أولى من مراحل التعلق.
• التفكير والبحث عن بدائل: إذا كنت متعلقاً بأحد، وأصبح مركز كل شيء بالنسبة إليك، وأنفقت عليه طاقة كان ينبغي أن توزع على موضوعات كثيرة، لأن الطاقة إذا تعددت مصارفها قل ضغطها على المخرج القديم وهو من تعلق قلبك به.
• سيخف تعلقك بشخص ما إذا توجهت للجلوس في جلسات تأمل تقضيها في مراجعة أفكارك ومعتقداتك، أو جلسات المناصحة والاستشارة مع بعض أصدقائك العقلاء وترتيب أفكارك بعد ذلك وتغيير بعض عاداتك كتعلم لغة جديدة، أو الانخراط في أعمال التطوع والأعمال الخيرية، والابتعاد عن كل ما يهيج الذكريات كالصورة والأماكن والأشخاص المشتركين بينكما، كل هذا يساعدك على علاج التعلق المرضي وأرجو من اللـه ألا تتعلق قلوبنا إلا بمحبته وذكره وشكره.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن