ثقافة وفن

الوعي والتغير.. نموذج غربي قبلناه فهل يكفي؟

| حسين مهدي أبو الوفا

لماذا نتوقع جميعاً أن يكون أولادنا أقدر وأشد ذكاء من سائر الأولاد؟
ولماذا تختلف النتيجة دائماً عن توقعاتنا، يبلغون سن الرشد فلا يختلف وضعهم عن وضع أقرانهم ذكاء وكفاءات، ولا يمتازون عنهم إلا في ما يختلف الأفراد بعضهم عن بعض في الطبع والميول والعادات؟
يعود ذلك، كما سنرى، إلى تجربة الفرد طفلاً ضمن العائلة وإلى خبرته بالغاً في المدرسة، وشاباً في المجتمع، ولا شك أن ما نعتبره في الطفل ذكاء حاداً أو مقدرة متميزة كثيراً ما تكون صفات للفرد في طفولته، لكنه يفقدها من جراء التربية التي نفرضها عليه، والمعاملة التي نفرضه إليها والتي تقتل سريعاً شعلة الذكاء الطبيعية في نفسه، وتقضي على القدرات الفطرية فيه. وما إن ندخله المدرسة والمجتمع حتى يكون استعد نفسياً لأن يتقبل الأفكار والأساليب الاجتماعية السائدة، فينسى أحلامه وتتبعثر قدراته، ويرضخ لإرادة القديم التي تجدد نفسها وتفرض سلطتها من خلال العائلة والمجتمع. وما عليه التطبيع الاجتماعي، من المهد إلى اللحد، إلا الاستمرار لعملية الاستبعاد التي يفرضها الجيل القديم على الجيل الجديد. وفي تعبير آخر، أننا نحرم أولادنا من مواهبهم، ونحد من مقدرتهم، لأننا نسعى بغية جعلهم على صورتنا ومثالنا كما فعل آباؤنا فجعلونا على صورتهم ومثالهم. والتحالف الذي يجابهه كل طفل هو تحالف العائلة والمجتمع ضده وهو يكاد يكون تحالفاً لا يقهر. وإذا كان الأمر كذلك فكيف لنا أن نحدث تغيراً في المجتمع؟ فالمجتمع لا يمكن تغييره إلا بتغيير العائلة. والعائلة لا يمكن تغييرها إلا بتغيير المجتمع، والاثنان مترابطان بشكل لا يقبل التفرقة. من هنا كانت أهمية الإدراك الذاتي، والمعرفة النقدية والوعي الاجتماعي، فهماً وإدراكاً وعملاً في معالجة هذه المعضلة.
من هنا كانت العملية النقدية الأساسية التي يجب علينا ممارستها في هذه المرحلة. نقد الفكري الغربي الاستعماري السائد في ثقافتنا الحاضرة لاستنباط الطرق السليمة التي يمكننا اتباعها للتغلب على عوامل التمويه الكامنة فيه، وصفحة القوى الإيجابية التي ينبثق منها. الخطوة الأولى في هذه العملية هي قبول النموذج الغربي الذي قبلته أجيالنا المثقفة من دون تساؤل أو تردد منذ بدء اليقظة في أوائل القرن الماضي، ووضعته مثالاً أعلى لكل علم وفن ومعرفة في العالم.
إن هذا النموذج الغربي ينبثق من مجتمع يختلف عن المجتمع الذي تصوره ويتصوره مثقفونا، وهو يعبر عن قيم وأهداف غير تلك التي يعتقدونها، فهو مجتمع موبوء وهو ذو قدرة هائلة على نقل عدواه إلى المجتمعات النامية، وما الفوضى والتضارب والتمويه التي عانيناها، ولا نزال نعانيها، إلا إحدى نتائج هذه العدوى.
ما الذي نريد تجنبه في هذا النموذج الغربي؟
يجب قبل كل شيء فضح ظاهرة الخجل الكامنة في صميمه. وقد عبر نيتشه عن هذه الظاهرة بلغة الفلسفة والشعر، وأشار إليها فرويد بلغة التحليل النفسي وعلم النفس، وكشف عنها ماركس بلغة النقد الاجتماعي والجدلية التاريخية، واتفق جميعهم على أن هذا المجتمع الغربي الاستعماري لا يقوم فقط على الاستغلال والقهر والعنف بل أيضاً على مقدرة هائلة للكذب والتمويه على النفس وحجب الحقيقة على الذات.
ولعل أكبر تعبير عن هذه المقدرة هو النزعة المثالية في أنماط التربية والتعليم الغربي، فالطفل ينشأ على القيم المثالية- المحبة- التعاون- الصدق- الكرم.. إلخ. التي ينقلها لفظياً في البيت والمدرسة، لكنه سرعان ما يكتشف تلقائياً. من خلال تصرف والديه وأقرانه والأفراد الذين يتعامل معهم في المجتمع أن هذه القيم مجرد مثال للارتباط مباشر لها بالحياة الواقعية والسلوك العام فينصرف إلى نمط من السلوك يفرضه عليه المجتمع من حوله يستند إلى العدوانية والتنافس والخداع والقهر، من دون أن يكون لهذا التناقض (بين الواقع والمثال) أي تأثير في نمط حياته أو في معتقده فهو في سن الرشد يسلك سلوك الذئب نحو أخيه الإنسان، وفي الوقت ذاته لا يتخلى في كلامه عن قيم المحبة والأخوة التي يسمعها في الكنيسة والمسجد وينساها باقي أيام الأسبوع في السوق والشارع إلا أن هذا التناقض لا ينحصر في مجرد حالة نفسية عند الأفراد يمكن تغييرها ذاتياً على الصعيد الفردي، بل يتجسد موضوعياً في علاقات المجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن