اجتماعات استانا: سبحان مغير الأحوال!!
| د. بسام أبو عبد الله
لم يكن بالإمكان قبل سنتين من الآن إقناع «عناتر» المعارضة، أو من يدعونها بأن ما يعرض عليكم الآن سوف تقبلونه غداً لأنه لا يجوز لمن يدعي نضالاً من أجل الشعب أن يرهن إرادته للأجنبي ويدعي أنه حر، ويطالب بالحرية للآخرين، كما أن من يرهن نفسه في لعبة الأمم، ومصالح الدول فسوف يجد نفسه مجرد أداة تتحرك وفقاً لتغير مزاج ومصالح داعميه..
سبق للحكومة السورية أن عرضت على كل هؤلاء المعارضين مبادئ عامة كان أولها «الوحدة في وجه التنظيمات الإرهابية» ومكافحة الإرهاب معاً، ولكنهم كانوا يقولون، ويكررون أن «جبهة النصرة» جزء من ثورتهم المزعومة، وحاولت أطراف كثيرة أن تبيض صفحة هذا التنظيم الإجرامي عبر تغيير اسمه- لكن دون فائدة تذكر لأنه أصبح ضمن قائمة الأمم المتحدة للتنظيمات الإرهابية، ووجب على جميع الدول محاربته مع شقيقه تنظيم «داعش» وفي الحقيقة، وكي نكون منصفين، وشفافين فإن العديد من الفصائل المسلحة التي شاركت في اجتماعات استانا لا تختلف من حيث البنية الإيديولوجية والبيانات، والتعصب، والتطرف عن شقيقاتها الأخريات، من حيث الممارسة وقتل الأبرياء في كل مكان من سورية، ومن ثمّ فإن من كان في الاستانا هو «التيار الإخواني»- الوهابي- الذي رعته دول إقليمية، وبدا ذلك واضحاً من ارتجافه من كلمة «علمانية» في البيان الختامي لأن كل هذه التيارات تعتبر العلمانية كفراً وإلحاداً، ولا تؤمن أساساً بالديمقراطية لأن جوهر الديمقراطية هو القبول بالآخر المختلف معك، فهل لدى هؤلاء استعداد للقبول بالآخر، وهل هذا نابع أساساً عن قناعة أم نتيجة تغير واقع الميدان، والسياسة، والمزاج العام ونزول هؤلاء مع مشغيلهم من أعلى الشجرة التي صعدوا إليها.
في كل الأحوال ما بعد استانا، هناك مسار طويل، وشائك ما يتطلب من التيارات العلمانية، والمتنورة في سورية حشد طاقاتها للمرحلة القادمة، أي توحيد جهود الأحزاب، والقوى التقدمية لمواجهة قادمة مع هذا التيار الإخواني- الوهابي الممثل بهذه الجماعات، ولكن المواجهة هنا هي سياسية، فكرية، ثقافية، حضارية من أجل سورية المستقبل، وخاصة أننا لم نلمس كثيراً من التغير في خطاب هؤلاء العالي النبرة، والذي يهدف للتغطية على خيبة أملهم، وفشل مشروعهم واضطرارهم للذهاب للتفاوض بضغط من مشغليهم، لأن التفاوض يجري أساساً مع مُشغل هؤلاء.
– في استانا قبلت «تركيا» المشغل الأساسي والداعم لهذه الجماعات ما يلي:
1- احترام سيادة سورية، واستقلالها، ووحدة أراضيها «بعد أن كانت تتحدث سابقاً عن حلب- وعن أحلام عثمانية» وهو ما يؤكد أن وجود الجيش التركي في الشمال غير شرعي، ويجب أن ينسحب مستقبلاً.
2- سورية دولة متعددة الأعراق، والأديان، وغير طائفية، وديمقراطية.. «هذا يسقط المشروع المذهبي الذي تبناه هؤلاء لسنوات»- وكلمة علمانية يجب أن تعود مستقبلاً بضغط أغلبية السوريين.
3- التزمت تركيا كدولة ضامنة لوقف إطلاق النار، وكجزء من آلية المراقبة، إضافة لتعهدها بمحاربة داعش، والنصرة وغيرها من المجموعات «وهو تطور مهم كانت ترفضه تركيا لسنوات مضت» الأمر الذي يعني زج الجماعات الملتزمة بالاتفاق بحرب داعش والنصرة، والذي «كانت ترفضه حتى وقت قريب».
4- توحي التصريحات التركية التي كان آخرها تصريح محمد شيمشك نائب رئيس الوزراء في دافوس أن تركيا تسعى للمقاربة الواقعية- البراغماتية التي تقوم على أن وهم إسقاط الدولة السورية، والرئيس بشار الأسد قد تلاشى تماماً، وظهرت أمامها حقيقة واحدة هي أنه لا امكانية للتسوية دون الرئيس الأسد- كما قال شيمشك نفسه، وقبله نعمان قورطولموش الناطق بلسان الحكومة الذي أقر بخطأ سياسة تركيا تجاه سورية وبأن من يحكم سورية أمر يقرره السوريون بأنفسهم، وليس أي أحد آخر.
– بشكل عام- إن تمكن روسيا من تحقيق هذا الفصل الفعلي بين الجماعات المسلحة، والذي تهربت منه واشنطن لمدة عام تقريباً يعتبر خطوة مهمة، وأساسية ويعني فيما يعنيه أن قبول هؤلاء بالحل السياسي يفهم منه سقوط ترهاتهم السابقة حول إسقاط الرئيس، والدولة، وأن الدولة السورية التي احتضنت الجميع، وفاوضت كل من هب- ودب من أجل حقن دماء السوريين، وإعادة الأمن والاستقرار، ووقف هذه الحرب الإجرامية- الفاشية ضدها، لن تألوا جهداً إذا كان بالامكان دفع المزيد من السوريين إلى جادة الصواب، وفهم أن استمرار التدمير لن يحقق مصلحة أحد، وأن المراهقة السياسية والتطرف والعقل المغلق لن ينتج لهم شيئاً، وخاصة بعد أن قدم الميدان في حلب وفي غير منطقة سورية مؤشرات على أن الأمور تسير إلى الحسم ما لم يفهم هؤلاء ذلك.
-الآن بقدرة قادر تحولت روسيا من دولة محتلة وفقاً لتعابيرهم إلى وسيط نزيه «سبحان مغير الأحوال» ومن دولة تقتل السوريين إلى صانعة سلام«سبحان مغير الأحوال» وسوف نقرأ، ونسمع الكثير من المصطلحات والتبريرات، والتصريحات النارية التي لن تغير في الواقع شيئاً، ومن خيبة أمل هؤلاء الذين كانوا يعملون لإسقاط الدولة، وإذ بهم يسقطون هم ومشروعهم الطائفي- المذهبي، ولأن القضية ليست من باب تقديم الحجة على هؤلاء، ولكن لأن على هؤلاء أن يدركوا أن ما ارتكبوه من خطايا بحق وطنهم- وشعبهم بحاجة للكثير من أجل التوبة عنه، كما أن مواجهة هؤلاء يجب أن تنتقل إلى ساحة أخرى، هي الساحة السياسية حيث الحجة، والقوة في البرامج، والسياسات، والالتزام الوطني، والخدمة العامة، واحترام مؤسسات الدولة، والدستور، والقوانين، إذ إن إعادة دمج من اعتاد الفوضى، ودعم الأجنبي في المنظومة الوطنية هو عمل شاق، ومضن، ويحتاج إلى الكثير من العمل والجهد والإقناع، والمبادرة الاقتصادية.
– كلما اقتربنا من الحلول السياسية، رأينا التفسخات والرائحة النتنة من هذه الأجسام التي صنعت في الخارج، ولا تملك من أمرها شيئاً واطلعنا أكثر على المزيد من الأسرار، والفضائح التي ستظهر الوجه الحقيقي لهؤلاء.
المشكلة بالنسبة لهؤلاء ليست مع الدولة بل مع الشعب السوري الذي دفع ثمناً باهظاً لاشتراك جزء منه في حرب إجرامية- فاشية لم يسبق لدولة- أو شعب أن تعرض لها.
ما بعد استانا سنرى الكثير، ونسمع العجائب، وسبحان مغير الأحوال دائماً..