استراحة «الوطن»..!
| عصام داري
سنوات طويلة وأنا أبحث عن ركن قصي ألوذ به من هموم الحياة، وأعلن حقيقتي التي كانت سجينة طوال تلك السنوات في قوالب اجتماعية ووظيفية جاهزة تحجب عن الناس الجانب الآخر من شخصيتي وهويتي وفلسفتي في الحياة.
كنت بحاجة إلى مساحة أصرخ فيها أعبر عن مشاعري، عن غضبي، وماذا أحب وماذا أكره، وأكتب بعض تجاربي في الحياة، شيء يشبه الذكريات، فمن حق كل إنسان أن يتحدث للناس عن بعض المحطات التي مرّ فيها، والمواقف التي تعرض لها، فمن قال: إن المذكرات وقف على علية القوم من ساسة وعلماء وأدباء وغير ذلك؟.
ومن قال إن قيس بن الملوح وجميل بن معمر وروميو هم العشاق الوحيدون الذين عرفهم التاريخ ومن بعدهم أغلقت دفاتر العشق والحب، وانتهت الرواية؟.
أعتقد إلى درجة اليقين، أن عالمنا شهد مئات آلاف قصص الحب التي تفوق روعةً ورومانسيةً وعمقاً تلك القصص الشهيرة، لكنها ظلت حبيسة الصدور، بعيدة عن الأضواء والإشهار.
وكما بدأت كلامي، فأنا أمضيت السنوات الطوال في مركز الضوء الإعلامي، ولكن في الوقت نفسه بعيداً عن نفسي، عن الـ«أنا» المسجونة وراء هالات الوظيفة والعمل والدراسة، وعلى وجه الخصوص في العمل الإعلامي السياسي، فأطلقوا علي تسميات: المحلل السياسي، والإعلامي السوري، ومدير تحرير ثم رئيس تحرير.
لم يسألني مذيع عن الياسمين، والشعر والزجل والألحان والأغاني طوال هذا المشوار، إلى سنوات قليلة مضت عندما استضافتني الإعلامية الكبيرة والصديقة هيام حموي فتحدثت عن فيروز ورحلة عشقي لهذا المخلوق ذي الصوت العذب والموسيقا الرحبانية وغيرها.
ربما كانت تلك هي المرة الأولى التي أخرج فيها من عالم الإعلام السياسي إلى الفن الذي يسكنني منذ الطفولة، وبعدها تتالت المرات التي تحدثت فيها عن الفن وعالم الأغنية، وإن كان معظم التركيز مخصصاً لعالم الرحابنة وفيروز.
لكن كل تلك الإطلالات كانت مجرد محطات متباعدة وعشوائية وغير مترابطة زمنياً وفكرياً وكانت نوعاً من الارتجال، إلى أن دخلت إلى «الوطن» هذه الصحيفة التي أحبها وتربطني برئيس تحريرها علاقات صداقة قديمة، عندها بدأت مرحلة جديدة من عملي الإعلامي هي الأقرب إلى نفسي وروحي ومقاربتي للحياة بكل تلويناتها وتقلباتها وجنونها.
في هذا الركن وجدت الطريق الذي كنت أتوق له منذ زمن بعيد، وشعرت أنه يعيدني إلى أكثر من أربعة عقود خلت عندما كنت صحفياً في بداية الطريق وكانت لي تجارب قليلة في كتابة القصة القصيرة والمسرحية (الشعبية) التي رأت النور على مسرح الخيام بدمشق وغير ذلك من تجارب في الإعلام الفني والرياضي قبل أن أغوص في بحر السياسة المتلاطم الأمواج.
في زاوية «من دفتر الوطن» شعرت أني وصلت إلى ما كنت أبحث عنه، وأن هذه الزاوية الأسبوعية هي الاستراحة التي كنت بحاجة لها، وهي الملاذ الآمن والركن القصي الذي سألقي فيه جسدي المنهك وروحي المتكسرة، وأمارس بوحي في وضح النهار.
أريد كوخاً خشبياً معلقاً في جبال تكسوها الثلوج، يشبه ذلك الكوخ الذي شاهدناه في فيلم هندي قديم، وفسحة سماوية وجدولاً يعزف ألحاناً شجية تتناغم مع هديل الحمائم وزقزقة العصافير.
المهم أنني حصلت على استراحة في «الوطن».