الحيتان ماضية في ابتلاع الأسماك
| عبد المنعم علي عيسى
في رحلة السير التي سلكها الطرفان الضامنان إلى مؤتمر الأستانا 23/25/1/2017 لم يكن من الواضح أن الأتراك كانوا يحملون في «زوادتهم» رؤية شاملة لمسار تسوية متكامل ولربما كان ذلك في صلب الاستراتيجيا التركية المعتمدة التي لا تزال تراهن على حدوث متغير ما يقلب المشهد السوري رأساً على عقب، أما المؤشرات على افتقاد تلك الرؤيا فهي عديدة ولعل أهمها حالة التصريحات المتناقضة التي يدلي بها المسؤولون الأتراك والتي كان آخرها ما أعلنه نائب رئيس الحكومة التركية محمد شمشك من مؤتمر دافوس 20/1/2017 والذي قال فيه: «إن رحيل الأسد هو أمر ليس واقعياً» وبعد ساعات على ذلك التصريح أصدر مكتب شمشك في أنقرة بياناً يعلن فيه أن تصريحات هذا الأخير قد فهمت خطأ على الرغم من أن مفردات وجمل ذلك التصريح كانت غاية في الوضوح وهي ليست من نوع «حمّال أوجه» لكي تفهم بوجهات نظر متعددة. على حين أن موسكو كانت تملك تلك الرؤيا- ولربما أدواتها أيضاً- وإن كان يؤخذ على هذه الأخيرة تغليبها للمؤثر الخارجي (علاقات موسكو مع الغرب) على المعطى الداخلي الذي تمثله مجمل الحقائق والوقائع التي أفرزتها الحرب السورية، وعلى الرغم من أن الروس قد جهدوا في التركيز على ضرورة إعلان الفصائل المشاركة في المؤتمر (ولربما حلفاؤها في الخارج) فك ارتباطها مع جبهة النصرة وهو ما يعتبر بكل الأحوال عاملاً إيجابياً إلا أن ذلك الأمر لربما كان مهماً وذا تأثير حاسم في مرحلة سابقة وهو لم يعد الآن بتلك الدرجة من الأهمية ما بعد التطورات التي شهدتها ميادين القتال مؤخراً وتحديداً منذ الخريف الماضي، واللافت في الأمر أن تلك الفصائل بدت مترددة جداً في الامتثال لذلك الطلب وهو أمر ناجم بالدرجة الأولى عن ترددها في حسم خياراتها واعتماد الخيار السياسي أو استمرار الرهان على الخيار العسكري وهي بالنتيجة لم تخلص عبر عملية المعايرة التي أجرتها إلى أي الخيارين هو الأفضل، فإذا ما كان الخيار الأول (السياسي) يخدمها من الناحية السياسية ويكون سبيلاً لها للدخول والمشاركة في أي تسوية سياسية مقبلة إلا أنه لا يخدمها من الناحية العسكرية لأنه سيضعها في مواجهة مباشرة مع جبهة النصرة في الوقت الذي كانت فيه جميع التجارب السابقة لتلك المواجهات تفضي إلى هزيمتها وفي جميع المرات التي حاولت فيها إحدى الفصائل التمرد كان الحوت النصراوي يبتلع سمكات الفصائل «المعتدلة» بما فيها تلك التي كانت تحظى برعاية ودعم أميركي.
في التداعيات التي خلفها مؤتمر الأستانا برز هناك مؤشران مهمان الأول: هو البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية التركية 26/1/2017 والذي صنفت فيه جبهة النصرة وداعش تنظيمين إرهابيين وعلى الرغم من أن الأمر يبدو أقرب ما يكون إلى صك ائتمان أرادت أنقرة تقديمه إلى موسكو إلا أنه يعتبر مؤشراً إيجابياً في مطلق الأحوال، والثاني: يتمثل في الصراع الدامي الذي شهدته ساحات الفصائل المعارضة إذ لم يكد حبر بيان مؤتمر أستانا الختامي أن يجف حتى قامت جبهة النصرة بمهاجمة عشرات المواقع العائدة لفصائل تابعة للجيش الحر في شمال وغرب البلاد وذريعتها في ذلك أن تلك الفصائل قد تآمرت عليها في الأستانا وأنها وقعت على بند سري يقضي بعزلها ومن ثم استهدافها للقضاء عليها، إلا أن الأمر اللافت هنا هو أن النصرة لم تستثن حركة أحرار الشام هذه المرة من اتهاماتها ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه فقد أعلنت هذه الأخيرة بعد ساعات على اندلاع المعارك أن «على جبهة النصرة أن تختار بين أن تنضم إلى فصائل الثورة أو أن تصبح داعش جديدة» وفي غضون 24 ساعة بدأت التراصفات الجديدة تتضح بشكل جلي مع إعلان «استقم كما أمرت+ الجبهة الشامية» في بيان أصدرتاه يوم 26/1 انضمامهما إلى أحرار الشام تلاهما إعلان «صقور الشام» في اليوم التالي 27/1 لتندلع المعارك بعيد هذا الإعلان الأخير في ريف إدلب الجنوبي بين الصقور وجبهة النصرة. من الناحية العملياتية والحسابية كذلك لا يبدو أن المبادرة التي أطلقتها حركة أحرار الشام 27/1 لوقف إطلاق النار فيما بين المتحاربين أنها تملك كثيراً من حظوظ النجاح إلا إذا ما تم قبولها بشكل مؤقت ولوقت قصير ريثما تستكمل الأطراف استعداداتها، فالاقتتال بات الآن أمراً حتمياً وجبهة النصرة باتت تدرك أنها سائرة نحو حصار يفقدها كل شيء بما فيه تلك المشيمة الواهنة التي كانت تربطها بشرائح صغيرة كانت في أغلبيتها تعاني التهميش الاقتصادي وفي الآن ذاته اجتاحتها أفكار الإسلام «غير الواعية» التي نمت وترعرت في الربع الخالي وفي الآن ذاته تدرك أنها ليست قادرة على مواجهة كل هؤلاء دفعة واحدة بمفردها خصوصاً أن مرحلة بناء تحالفات جديدة لم تعد قائمة في ظل التطورات الراهنة ولربما لم يتبق من حليف يمكن أن تذهب إليه سوى داعش وهو احتمال وإن كان بعيداً إلا أنه ليس مستحيلاً، صحيح أن العوائق التي تقف أمام تحالف كهذا هي عديدة وأهمها افتراق الإيديولوجيا التي شطرت التوءمين أحدهما عن الآخر في نيسان 2013 وفي العادة غالباً ما يكون ذلك النوع من الانشقاقات بين التوائم هو أصعب أنواعها حيث ما يجمعه بعضها مع بعضها الآخر كل شيء وما يفرقها هو شيء وحيد لكنه يتضخم حتى ليشغل كامل اللوحة فلا يعود شيء من الأمور الجامعة بادياً فيها، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن حالات الإحساس بالخطر الوجودي غالباً ما تكون كافية لتجاوز أعتى الخلافات وأصعبها ولربما كان «كتاب» النصرة الذي يجب عليها استيعابه في المرحلة المقبلة واضحاً من عنوانه الذي تختصره عملية استهداف معسكر الشيخ سليمان في ريف حلب ليل 19-20/1/2017 فهذي الأخيرة تصلح لأن تكون عنواناً عريضاً للمرحلة المقبلة ناهيك عن أنها كانت تحمل العديد من الرسائل التي كان أبرزها احتمال أن تكون دقة تلك العملية (راح ضحيتها 150 قتيلاً باعتراف النصرة) ناجمة عن إعطاء «البعض» إحداثيات الهدف بدقة متناهية، ومنها أيضاً أن إقلاع طائرات الـ(b 52) التي نفذت العملية كان من قاعدة العيديد في قطر كما رجحت أغلبية التقارير وهو أمر يمكن أن يقرأ كرسالة أريد إيصالها إلى المتبقي من المراهنين على دعم قطري كانت الدوحة قد أعلنت أنها ستقدمه (أيلول 2016) حتى ولو كان ذلك ضد الإرادة الأميركية ومفادها أن الرهان على قطر لم يعد بعد الآن رهاناً صحيحاً ومن الواجب على أؤلئك مراجعة حساباتهم فيما يخص ذلك الرهان.
اليوم (2017) يبدو الغرب (وكذا معسكر الذين أعلنوا الحرب على دمشق) ماضياً في ممارسة ضغوطه في محاولة لإجبار تلك الكوادر على سلوك طريق الرجعة بمعنى الانشقاق عن جبهة النصرة والعودة إلى الفصائل التي كانت قد خرجت منها وبذا تكون هذه الأخيرة (النصرة) قد دخلت شريكاً في أي تسوية سياسية مقبلة لكن بلبوس آخر إذ لا يعقل أن تتغير أفكار الفرد وعقائده بمجرد أن انضوى تحت راية فصيل آخر استجابة لظروف اضطرته إلى ذلك التراصف الجديد.
ألا يمثل هذا الآن دليلاً قاطعاً على أن الغرب كان يملك مفتاح حنفية التطرف والتكفير في الداخل السوري وهو يُعلي عيارها عندما يريد ومن ثم يقلل منه إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك؟!