جنيف 4 بحاجة إلى إنضاج
| عبد المنعم علي عيسى
لا تكاد تكون المرحلة الفاصلة ما بين مؤتمر الأستانا وبين جنيف في طبعته الرابعة كافية للحظ مسارٍ خاص يتناسب مع ما تمخض عن ذلك المؤتمر على الرغم من أن هذا الأخير قد استطاع تحقيق تمايز كبير في مواجهة سابقيه فهو أضاف إلى ما خرجت به المؤتمرات السابقة أمرين مهمين: أولهما التركيز على تنفيذ القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن 17/12/2016 وثانيهما التركيز على قتال «فتح الشام» إضافة إلى «داعش» وجعل هذا الأمر عنواناً للمرحلة المقبلة، وهي «المرحلة الفاصلة» تبدو زمنياً أقصر ما يلزم لتبلور ملامح محددة خاصة بها لجعلها حيثية متفقاً عليها مسبقاً والانطلاق إلى ما يليها، إلا أن أكثر ما طغى على تلك المرحلة وصبغها بصباغه كان يتمثل فيما أطلق عليه «الإشكالية» التي أصابت العلاقة الروسية- الإيرانية وبمعنى آخر القول بأن التحالف الروسي- الإيراني- السوري قد تعرّض لهزة قوية لم يشهدها من ذي قبل، فهو استطاع الصمود لما يقرب من السنوات الست كما استطاع تجاوز العديد من المطبات التي كان البعض منها أكبر بكثير من هذا المطب الأخير الذي نشأ في أعقاب الدخول التركي على خط العملية السياسية في الوقت الذي بدا فيه مسار هذه الأخيرة كطائر يخفق بجناحيه معلناً عن رغبته في التحليق أو الطيران. إن نظرة واقعية ومحايدة بالقدر الذي تتيحه «السورنة» تشي بأن ثمة متغيراً ما قد طرأ على نكهة العلاقة التي تربط موسكو بطهران وتحديداً منذ بدء انطلاق عربة التفاهمات الروسية- التركية صيف العام الماضي التي تسارعت بدرجة لم يكن متوقعاً لها، ولربما يمكن أن نجازف فنقول إن المرحلة المقبلة قد تشهد تسارعاً آخر لتلك العربة انطلاقاً من رزمة المعطيات التي فرضتها ظروف موضوعية عديدة ولربما ستصل إلى ذروة تسارعها مع حلول نيسان المقبل الذي اختاره رجب طيب أردوغان موعداً للانتقال بالبلاد إلى نظام رئاسي شبيه بالنظام الروسي، ومن المقدر لو استطاع هذا الأخير- وهو سيستطيع على الأرجح ما لم يحدث تطور دراماتيكي مهم النجاح في مسعاه أن يؤدي ذلك إلى خلق نوع من التقارب التماثلي وبمعنى آخر تقارب يفرضه تشابه النموذجين (الروسي والتركي) وفي الآن ذاته فإن من شأن هذا الأمر (التقارب) أن يؤدي بالضرورة إلى مزيد من التباعد ما بين أنقرة من جهة وبين الأوروبيين والأميركان من جهة أخرى.
لربما أمكن بالنسبة للكثيرين لحظ نوع من الجفاء الإيراني- الروسي في المرحلة التي كانت تتسارع فيها التحضيرات لانطلاقة المؤتمر وهو ما ظهر في أن «الرعاية الإيرانية» لهذا الأخير كانت عنصراً مضافاً للرعاية الثنائية السابقة قبل أن تصبح ثلاثية في خلال الـ24 ساعة التي سبقت انعقاد المؤتمر وفي النهاية لا شيء يمكن أن يحدث عن عبث أو من دون أن تكون له مقدمات تفضي إلى نتائج سرعان ما تتبلور وفق نماذج عدة.
لربما تقف بعض المعطيات وراء ذلك «الجفاء» الذي يمكن فهمه في سياق المسعى الغربي إلى «كبح جماح إيران في سورية والمنطقة» وبمعنى آخر في سياق مقاربة موسكو لهذا المسعى فالغرب يرى أن السياسات الإيرانية ذاهبة بإصرار نحو التمرد أو نحو إخراج المارد من قمقمه وفي دفاعه عن هذه الرؤيا الأخيرة يقدّم الدليل تلو الآخر لتدعيمها وآخرها قيام طهران بتجربة إطلاق صواريخ بالستية بعيدة المدى 2/2/2017 وهو ما قابلته واشنطن بردّ فعل قوي وكذلك الغرب ممثلاً هذه المرة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي قالت إن ما قامت به طهران هو انتهاك لقرارات مجلس الأمن ذات الاختصاص، ولذا فإن الراجح هو قيام الغرب بالضغط على موسكو للمساعدة في ضبط المارد وعدم وصول الحالة الإيرانية إلى كوريا شمالية رقم (2) بحسب رؤياه، وإذا ما صح هذا التحليل السابق فإن المقدر لتلك الإشكالية (الروسية- الإيرانية) أن تتنامى، الأمر الذي من شأنه أن يرخي بظلاله الثقيلة على مسار التسوية السورية التي سيكون في العديد من محطاته ومفاصله وتفاصيله ذا حساسية مفرطة وشديدة التعقيد تتطلب انسجاماً شبه مطلق فيما بين رعاة ذلك المسار.
هناك العديد من المؤشرات على وجود اتفاق روسي- غربي- تركي غير معلن فيما يخص التسوية السورية إلا أن ذلك الاتفاق يحوي على الأرجح فيما بين جنباته رسماً لإطار العلاقة مع إيران، أما آلياته فهي تفترض ذهاب الأطراف لملاقاة بعضهم لبعض فيما يخص الأزمة السورية، وفي هذا السياق يمكن فهم تصنيف الخارجية التركية لجبهة النصرة على لوائح إرهابها في اليوم التالي لمؤتمر الأستانا 26/1/2017 وهو أمر يمثل عملياً انقلاباً حقيقياً في السياسات التركية المعتمدة منذ ما يقرب من ست سنوات، أما الغرب فقد كانت خطواته الأولى نحو ملاقاة الطرفين الآخرين تتمثل فيما قاله دي ميستورا 2/2/2017 عندما لوّح بأن الأمم المتحدة سوف تعمل على تشكيل وفد المعارضة السورية إذا ما فشل الائتلاف في القيام بذلك وهو تصريح حقيقي بمعنى أن الغرب سوف يذهب إلى تنفيذ تلك التهديدات في حال لم يستجب الائتلاف لمطالبه، ولا أهمية هنا تذكر لما قاله أحمد رمضان رئيس الدائرة الإعلامية في الائتلاف على قناة الميادين 2/2/2017 الذي أكد فيه أن المبعوث الأممي كان قد أرسل في أعقاب اللغط الذي ساد جراء ذلك التصريح مبعوثاً خاصاً التقى قيادات الائتلاف في استانبول وأن الأخير أكد أن دي ميستورا لن يتدخل في تشكيل وفد المعارضة تحت أي ظرف كان، نقول لا أهمية تذكر لهذا النفي لأنه لم يصدر عن دي ميستورا شخصياً أو عبر مكتبه وإنما جاء (إذا ما كان صحيحاً) عبر مبعوث شخصي وفي لقاء مغلق لـ«تطييب الخاطر» على الأرجح.
هذه الخطوات التي تسلكها الأطراف سابقة الذكر تجري بالتزامن مع تصعيد غربي- أميركي تجاه طهران والعودة إلى سيناريوهات حصارها من جديد إلى ما قبل اتفاق فيينا 14/7/2015 واللافت أن دونالد ترامب كان قد ذهب في هذا السياق إلى تصريح غريب إلا أنه ذو دلالات عديدة، فقد أعلن هذا الأخير 2/2/2017 أن إيران كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل أن تفرج الولايات المتحدة عن 150 مليار دولار في إطار الاتفاق حول برنامجها النووي الذي وصفه ترامب بـ«المريع» إلا أن السؤال الأهم هنا هو لماذا لم تذهب واشنطن إلى ترك إيران لتلفظ أنفاسها الأخيرة عبر تأجيل الإفراج عن المليارات سابقة الذكر؟ألم يكن ذلك – فيما إذا كان كلام ترامب صحيحاً- الأمر يحقق المرامي الأميركية أو أنه يتناسب مع العداوة التي تكنها واشنطن لطهران أم إن هناك رغبة أميركية لا يطولها الشك ببقاء النظام الإيراني؟ أما المطلوب فهو «تغيير سلوكه» فقط والرهان على هذا الأمر الأخير لا يزال قائماً بمعنى أن واشنطن لم تصل إلى درجة اليأس بعد.
وفي مطلق الأحوال فإن المؤكد أن هناك مصلحة روسية ببقاء إيران قوة إقليمية كبرى وهي قادرة على ممارسة دورها الذي تمارسه الآن إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة راسخة هي أن كل خطوة تقارب روسية مع أنقرة من شأنها أن تكون خطوة تباعد مع طهران، فتلك قاعدة يفرضها الجيوبولتيك الخاص بكلا الكيانين وما يفرضه هذا الأخير أيضاً وجود تناقض شبه تام فيما بين الدور الإقيلمي لإيران وبين نظيره الدور الإقليمي التركي.
الإشكالية التي يعانيها الدور الروسي نابعة من صعوبة المواقف التي يحاول الموازنة فيما بينها، فهو من الواجب عليه أخذ المعطيات التي أفرزتها الحرب السورية بعين الاعتبار ومن الواجب عليه أيضاً إرضاء الغرب وكذلك احتواء المرامي التركية أو تطويعها لا التصادم معها بقدر المستطاع إذا ما أرادت- وهي على الأرجح تريد- السير في الطريق الموصل إلى حلول مقبولة للأزمة السورية تحظى بموافقة الأغلبية بشقيها الداخلي والخارجي.