ثقافة وفن

أنا عربي من القدس عانيت كما عانى المسيح في سبيل السلام والعدل … إيلاريون كبوجي من حلب إلى فلسطين والعالم رحلة نضال والعودة إلى حلب ممجداً مظفراً .. شعبان: رغم رحيل كبوجي جسداً إلا أن إرثه المقاوم سيكون ملهماً لنا في نضالنا المستقبلي

| سوسن صيداوي – سارة سلامة

في سورية مهبط الديانات، في بلادها التي تليق بالأنبياء وبالقديسين، في أرض لطالما كانت المباركة، ولد المطران إيلاريون كبوجي في حلب الشهباء، سائراً في موكب الحياة، عارفاً جوهر أقداسها، منتهجاً إنسانيتها، وعاشقاً المحبة التي لا تميز بين البشر، والتي تعتنق اللـه إيماناً معشوقاً لكل أسرار الكون، كان الوطن في عينيه أكبر من أي مسافة كونية، منطلقاً من وطنه سورية، الكبير حبه لها كوسع المدى، محتضنها في قلبه الذي لا يمكن لمرء أن يقدر على إحصاء عدد دقاته، فكيف لا وهي التي علّمته الانطلاق والتحرر، ومن سورية وهي وطن الأوطان، مكنّته أن يكون ابناً لكل أرض تطؤها قدمه، ويتنفسها صدره، وتقع عليها عينه، فسورية هي أسرار الحياة وحسن المعشر وربته بأن يكون في تلك البلدان الابن البار والمواطن الصالح والخادم المخلص، وهذا أمر طبيعي على قداسته فهو يتحدث عن الوطن كأنه يقرأ حروف كتابه المقدس، رحل وهو معانقاً القدس في روحه، متمنياً بحرقة شديدة، العودة إليها وأن تراها عيناه، رحل بعد أن دفع الثمن غالياً، إذاً فسورية علمته أن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية فلسطينية، بل قضية عربية كرّس حياته لأجلها، أغمض عينيه عن الحياة في أول يوم من عام 2017، ولكنه حين أغمضها مسلماً ذاته الفانية للموت، فتح باب التاريخ واسعاً لمسيرة معطرة لا يمكن إلا أن تبقى ذكراها مؤبدة إلى جانب الخالدين في مسيرة الإنسانية والمحبة والإيمان والعطاء والنضال.
برعاية رئاسة مجلس الوزراء وبطريركية الروم الملكيين الكاثوليك وسفارة دولة فلسطين، أقيم حفل تأبين لمثلّث الرحمة المطران إيلاريون كبوجي النائب البطريركي العام للقدس في المنفى، في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، ضمن حضور سياسي وديني وثقافي وفني سوري وعربي، حيث استهل الحفل بالوقوف دقيقة صمت إجلالاً وإكباراً لأرواح الشهداء وبالنشيد العربي السوري، ثم تمّ عرض فيلم وثائقي عن حياة المطران الراحل، بعدها كان هناك العديد من الكلمات لقامات سورية وعربية عاشت وناضلت وكانت قريبة من المطران كبوجي، ووقفت في الحفل كي تقول كلمتها، وتخللها إطلالات متعددة لفرقة لونا بقيادة حسام الدين بريمو.

ملاك رحمة وزندٌ مقاوم
أكدت المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية الدكتورة بثينة شعبان أن المطران إيلاريون «نشأ وترعرع في مدينة حلب ثم قاوم وناضل في فلسطين وعانق تراب لبنان قرب والدته بقلب طفل يتوق للعودة إلى حضن الأم وعقل مفكر عربي مقاوم صلب»، مضيفةً: إن «مسيرته شكلت منارةً تهتدي بها الأجيال كي لا تضل الطريق وسط تعميات إعلامية وسياسية واختراقات لقلوب وعقول أهل الدار هدفها أن تضل الأغلبية الطريق إلى الحق وأن تضل الطريق إلى القدس».
وبينت شعبان أن كبوجي «استمد إيمانه من حقه في فلسطين قوةً من إيمانه بالرب وضرورة إرساء أسس العدل والعدالة لأهلنا في فلسطين ولكل الشعوب المضطهدة والمقهورة، فلم تكن صوفيته وعشقه للرحمن تعني الانزواء أو الاستسلام وانتظار الآخرة والتخلي عن هذه الدنيا بل على العكس ترجم إيمانه العميق بالله والمثل العليا إلى عمل صلب دؤوب مقاوم ومستمر». وأضافت شعبان إن «جسده الرقيق حمّل أوزاره على مدى عقود من حياته الحافلة بالصدق والتضحية والامتثال لكل القيم التي نادى بها وسعى إلى تحقيقها، فأصبح تجسيداً لها على أرض الواقع»، مفيدةً بأنه «جرؤ جرأة المؤمن الذي لا يخشى في اللـه لومة لائم، وجرأة كل من وضع القضية فوق كل اعتبار شخصي أو آني، وأنه ملاك رحمة وزندٌ مقاوم وصوت حق ترددت أصداؤه في أركان المعمورة، وأنه صادق في أقواله وأفعاله وانتمائه إذ جسد فعلاً وعملاً كل ما آمن به ونادى من أجله».
وأضافت شعبان: «قلة هم القادة الذين يتماهون مع مثلهم ومبادئهم لم يكن المطران كبوجي أول مطران عربي كاثوليكي يزج في السجن الإسرائيلي ثم يطرد من بلده لقد سبقه إلى ما يشبه هذا المصير المطران جريجوريس هجران مطران العرب، الذي مات قتلاً على الأرجح في 30 تشرين الأول 1940 بعد ما ذاع صيته الوطني في ثورة 1936 الفلسطينية الكبرى، وفي سنة 1962 اعتقلت السلطات الإسرائيلية الكاهن المصري واكيم الإنطواني بتهمة التعاون مع الأردن، ثم أبعدته وفي 1963اعتقلت الاستخبارات الإسرائيلية القس إيليا خوري بتهمة التعامل مع جماعات فلسطينية معادية لإسرائيل، اعتقلته أيضاً من كنيسته ودياره»، منوهة بأن «المطران كبوجي كان أشدهم صلابة وأبعدهم أثراً وأكثرهم عنفواناً وتحدياً لإسرائيل، ولم يتردد في الاعتراف بنقل أسلحة إلى الفدائيين الفلسطينيين، قائلاً: إن القتال في فلسطين دفاعاً عن فلسطين له ما يفرضه، عدو غاشم مراوغ سلبنا ديارنا وهو يكتم على صدرنا».
وقالت شعبان: «إن اسمه الأصلي هو جورج البواب واختار اسم إيلاريون تيمناً براهب ولد في غزة في سنه 291 ميلادية، وعيّن نائباً بطركياً في القدس لطائفة الروم الكاثوليك، وفي القدس ظهرت بوادره القومية بوضوح وجلاء فكان الوحيد من بين رجال الدين الذي رفض حضور الاحتفالات الرسمية التي تنظمها السلطات الإسرائيلية». مضيفةً إنه في يوم وفاة جمال عبد الناصر في 28 أيلول 1970 توجه إلى جميع الأساقفة في القدس طالباً منهم رفع الأعلام السوداء فوق مقارهم وقرع الأجراس في أثناء جنّازاتهم».
ورددت شعبان هذا القول للمطران «أنا عربي من القدس عانيت كما عانى المسيح في سبيل السلام والعدل» ليبعدوني فسأقيم في خيمة مع اللاجئين على حدود فلسطين وفي عيد الأم قال إن هناك أهم من الأم الوالدة وهي الأرض الأم، موضحةً أنه امتثل للأمر البابوي عندما نفوه ولكنه اشترط ألا تتخطى إقامته في تلك البلاد ثلاثة أشهر، ولما طالت المدة ونفد صبره من مراجعة دوائر الفاتيكان، اتصل بالرئيس حافظ الأسد وأطلعه على حاله فقال له مادمت مواطناً سورياً عد إلى وطنك على مسؤوليتي، وهذا ما جرى فعاد إلى دمشق وشارك في أعمال المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في العاصمة السورية في كانون الثاني 1979 وكان على متن سفينة الأخوة اللبنانية في 24 شباط 2009 التي أبحرت لكسر حصار غزة عن سكانه فاعتقلته السلطات الإسرائيلية في عرض البحر وأبعدته إلى سورية عبر بوابة الجولان، مبينةً أنه «لم يستكن فاعتقل مجدداً في 31 أيار 2010 على حين كان يشارك في أسطول الحرية المتوجه إلى ميناء غزة لفك الحصار عن غزة، وحيت شعبان الجزائر والحاج كريم رزقي الذي كان مع المطران كبوجي في أسطول الحرية وأيضاً الدكتور هاني سليمان من لبنان الذي رافق المطران في أسطول الحرية».
وأفادت شعبان أن «في هذا الأسطول اتحدت فلسطين ولبنان وسورية والجزائر كما سوف يتحدون دائماً في مقارعة الاستعمار والصهيونية».
وأوضحت شعبان أن «سيرة المطران كبوجي سيرة يجب أن تدرس كسيرة الإمام المغيب موسى الصدر العروبي المقاوم، وسيرة الشيخ الشهيد رمضان البوطي الذي قاوم الظلم والإرهاب وقضى شهيداً في مقاومته»، متسائلةً: إنه «هل يعقل أن يمضي هذا المثل المشع في حياتنا العربية من دون أن نسجل كل معلم من معالم طريقه وكل فكر وكل مبدأ وكل قيمة نبعت من هذه الشخصية الفذة، التي وجد فيها العدو خطراً كبيراً عليه ولم نعمل نحن على توثيق كل تفاصيلها وتكوينها ومسارها النضالي لتبقى نموذجاً يحتذى به ومدرسة للأجيال الشابة القادمة».
ونوهت شعبان بأن «هذا التقصير يندرج في إطار الهدر الذي تعاني منه هذه الأمة وخاصة في مجال البحث والفكر والتوثيق والأرشفة، وأن الحروب التي خضناها برهنت أننا بحاجة إلى استثمار معرفي وسياسي وإعلامي، يتوج الانتصارات العسكرية ويستثمر التضحيات السخية التي قدمها أبناء هذه الأمة على امتداد التاريخ والجغرافيا العربية».
وأكدت شعبان «أن خسارتنا من عدم الاستثمار ما بعد الحرب لا تقل عن خسارتنا في الانتكاسات العسكرية، لا بل قد تزيد عليها إذا كان العدو الصهيوني يشكل فرقاً لمحاكاة حزب اللـه المقاوم في القتال متسائلةً أو لا يجب علينا أن نبحث نحن في نقاط قوة عدونا ونقاط ضعفنا بعد عقود من التعثر ومواجهة أهلنا في فلسطين لأبشع استعمار بصدورهم العارية أو أمعائهم الخاوية؟ أوليس من المحرج لهذه الأمة أن يضطر الشاب الفلسطيني ليقاوم بصدر عارٍ، وأن يلجأ أسرانا إلى معركة الأمعاء الخاوية؟ أوليس من واجبنا جميعاً أن ندرك بعد كل ما مارسوه بحق أمتنا من ظلم واحتلال وقهر، أن ندرك أن لا خلاص لأحد منا إلا بخلاص الجميع، وأن الجغرافيا والتاريخ والثقافة والمصير تحتم أن معاناتنا واحدة وأن كل ما يوحدنا هو صحيح وكل ما يفرقنا هو خطأ وأننا شئنا أم أبينا فإن فلسطين جزء من سورية وأن سورية جزء من فلسطين وأن لبنان والأردن والعراق جزء من فلسطين وأن فلسطين جزء من لبنان والعراق والأردن؟».
وأفادت شعبان بأن «سيرة المطران كبوجي ستكون موضوع عمل درامي بدأت بالإعداد له مؤسسة الإنتاج التلفزيوني في وزارة الإعلام في الجمهورية العربية السورية».
وأخيراً قالت شعبان: إنه «رغم رحيل المطران إيلاريون كبوجي جسداً إلا أن إرثه المقاوم سيكون ملهماً لنا في نضالنا المستقبلي، إلى أن نستعيد قدسنا وجولاننا وكل أراضينا المحتلة وننقل رفات المطران المقاوم إلى التراب الذي يعشق تراب فلسطين كي تقر عينه ولا يحزن».

فلسطين أصبحت شخصية كبوجي
في حفل التأبين وحسب برنامجه كان لغبطة البطريرك غريغوس الثالث لحام كلمة، تذكر فيها مسيرة حافلة بالحب والعطاء والنضال إلى جانب المطران كبوجي، وجد نفسه بالقرب من الراحل، أخاً ورفيقاً وتلميذاً في مدرسة القضية والأوطان كما قال: نجتمع كي نتذاكر ما كان من سيرة عطرة لمثلث الرحمة إيلاريون كبوجي مطران القدس، فهو شهيد حلب وفقيد الرهبانية الحلبية المباركة، وقد دفن في لبنان ليس كلبنان فقط، بل كان له الرغبة في أن يدفن إلى جانب والدته في الرهبانية البصرية الحلبية، وهو فقيد القدس عاصمة إيماننا، وفقيد سورية التي ربته ونشأ فيها، وفقيد فلسطين التي أصبحت شخصيته كلها فلسطين، وفقيد المقاومة والحرية والكرامة، الكرامة التي هي رمز لهذه القامة، وهو فقيد لي باعتباره كان أخاً لي، فأول لقاء لي معه كنت شاباً صغيراً في المحكمة في 9 تشرين الثاني عام 1974 وحضرت أول محاكمة له، إذاً هو أخي وقد جاهدنا معاً على مدى ست وعشرين سنة، فكان هو في سجن الشهامة والإباء والعزة، وأنا كنت أسير وأشارك معه في القضية، أسير بهدى إيمانه وقوة معنوياته، كما كنت أتابع رسالته في المحاضرات شبه اليومية في القدس على مدى ست وعشرين سنة، حتى بعد أن غادر، كنت من خلال هذه المحاضرات ألتقي بالحُجاج من أقطاب العالم وأكلمهم عن شخصية المطران كبوجي، وأهمية وفرادة التزامه بالقضية الفلسطينية العالمية وما يقاسيه في سبيلها، وأنا أحسب نفسي من خريجي مدرسة كبوجي ورفيقاً له على مدى ست وعشرين سنة في الجهاد، لأني كنت إلى جانبه في كل التظاهرات والزيارات لكل القرى الفلسطينية الحبيبة، وكان الحُجاج يشاهدون سجنه لأنه كان سابقاً في سجن بعيد عن تل أبيب والمطار، ولكن لمّا انتقل إلى سجن قريب من تل أبيب، كان كل الحُجاج الذين يمرون بالقدس، يمرون ويسلمون عليه، وكنت أقول لهم أنتم تمرون الآن من أمام سجن المطران كبوجي، فكان كل حاج إلى الأرض المقدسة يلقي السلام على سيدنا كبوجي، في شهر آب عام 1974 اعتقل من السلطات الإسرائيلية وسُجن وحُكم عليه باثنتي عشرة سنة، قضى منها ثلاث سنوات، وليس أربعاً، حيث بقي في السجن من عام 1974 في 19 آب حتى 6 تشرين الثاني عام 1977، وكنت في استقباله في مطار روما، وكان أعفي عنه بتوسّط من البابا بولس السادس وأيضاً رؤساء الكنائس في القدس، حيث قمنا بإمضاء عريضة كي نطلب إخلاء سبيله، ثم بعد نفيه في روما بقي في المنفى حتى وفاته، والجميل بأنه بقي طوال ذلك الوقت «واقفاً»، وكان دخل المستشفى في ثلاثين من كانون الأول بسبب نزلة صدرية بسيطة، وبقي في المستشفى لمدة أربع وعشرين ساعة ثم انتقل إلى السماء «واقفاً»، المطران إيلاريون كبوجي هو راهب حلبي وناهض ينذر حياته كلّها للرب من خلال نذوره الثلاثة، وكان نذره الأخير والوحيد هو فلسطين، فمنذ أن عيّن بطريركياً أصبح رمزاً للقضية الفلسطينية ونذر حياته لخدمة الفلسطينيين في الوطن وفي العالم أجمع، وأصبحت قضية فلسطين، قضيته، وبقي مدافعاً لها حتى آخر رمق من حياته وبقي يلقي المحاضرات في بلدان كثيرة عربية وأجنبية وأوروبية، حاملاً هموم القضية الفلسطينية وحقوق أبنائها مسلمين ومسيحيين في جرأة واعتزاز وفصاحة كبيرة يتمتع بها سواء بالعربية والفرنسية، ومن ذكرياتي كان أول سجن له في وسط فلسطين، وبقي يلحّ من 19 آب إلى كانون الثاني عام 1975 بأن يكون قريباً من الفلسطينيين حتى في سجنهم، وهكذا انتقل إلى زنزانة ثلاث سنوات، حيث رغب أن يكون بظروف أبنائه الفلسطينيين نفسها، وكنت حاولت أثناء خدمتي في القدس أن أدبر له زيارة إليها، ولكن للأسف لم يتمكن المطران الراحل من زيارة القدس من جديد لأن عودته تعني الكثير محلياً وعالمياً، أن نضال وتضحيات فقيدنا هي بحق فخر لفلسطين ولسورية وطنه وللبلاد العربية، وفخر لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك».

الحديث عن كبير.. أبداً محرج
كان للأب الياس زحلاوي كلمة استهلها بهول ووجع الغربة التي كان يعانيها المطران الراحل كبوجي، والتي كانت له في حياته خشبة الصليب التي حملها بحب كبير رغم ثقلها، كي يكمل رسالته التي خُلق لأجلها، متحدثاً ما كان لأحد أن يدرك هول الغربة، التي كان المطران إيلاريون كبوجي يواجهها طوال حياته كلها، ولا سيما منذ أن أصبح مطراناً على مدينة المدائن، القدس، لو لم يُصلَّ على جثمانه في كنيسة المقر البطريركي في لبنان، إذ كانت شبه خالية. هل منكم من شاهد صورة هذا المأتم، ولم يُصدَم، ولم يتساءل: أين الناس؟ أين المسؤولون؟ أين رجال الكنيسة؟ أين الراهبات؟ أين أبناء فلسطين؟ أين المعجبون؟ أين الفضوليون؟ أين القيم؟ الكل هوى! أجل الكل هوى، إلا ذاك المسجّى في نعشه، والمنتصب لأمدٍ بعيدٍ بعيد، سؤالاً مقلقاً، وجواباً ساحقاً في آن واحد. وإني لأرى أنه لم يبلغ يوماً من الكِبَر، ما بلغه وهو في حضرة الله، في هذه الكنيسة شبه الخالية.
المطران إيلاريون كبوجي، أتيح لي أن أعرفه في دمشق عام 1952، يوم كان كاهناً متبتّلاً في الثلاثين من العمر، يتحمل مسؤولية رعاية جميع كنائس ريف دمشق، في فيض من حب وتفانٍ، ويوم كنت طالب كهنوت في العشرين من عمري. ولقد تعاونت وإياه في خدمة الطفولة الفقيرة، خلال عطلة الصيف، إذ كنت أعود من القدس حيث كنت أدرس، وذلك منذ عام 1952 حتى عام 1958. وكان أن تعمقت الصداقة بيننا، وتواصلت في وفاء نادر ومدهش، وتجلت في ظروف كثيرة، وبطرق مختلفة، لم يزدها ما بلغه من شهرة ونفوذ، إلا مودة واتضاعاً. وإن أنسَ، لا أنسَ، أنه، قبيلَ رحيله المفاجئ بساعة واحدة، كان يتصل هاتفياً من روما، حيث إقامته المعروفة، منذ خروجه من سجون الاحتلال الصهيوني، بدمشق، ليطمئن على صحتي.
وإلى ذلك، فهو لم يَبُح لي يوماً بما كان يعانيه من غربة مريرة ودائمة، ما كان ليخفى علي بعض وجوهها، فيما كان هو، على كل حال، يتقن إخفاءها حتى على أقرب محبّيه، وراء ما طبع عليه من مرح عفوي، ووراء ابتسامته الدائمة، أو ضحكته المجلجلة.
لقد كان يعرف، منذ أن اختار الكهنوت المتبتل، سبيل حياة في خطا السيد المسيح، أنه سيواجه حتماً غربة جذرية، حقيقية ودائمة، سوف يختبرها في كل لحظة من كل يوم، طوال حياة أرادها وقفاً لله وحده، من أجل الإنسان، كل الإنسان.
وهو يعرف أنه ينهج هذا السبيل الصعب، في مجتمعات عربية، مسيحية ومسلمة، راسفة في تخلف بلغ من القِدم، ما جعلها تضفي القدسية على بعض من عاداتها الاجتماعية الصرف، وعلى موروث ديني، يحتاج، قبل كل شيء، إلى مراجعات مسؤولة، صادقة وجريئة، وعلى أحكام مسبقة باتت أشبه بعقائد دينية، قلما يجرؤ أحدهم على التعرض لها أو مناقشتها… وهي مجتمعات أسلمت قيادها، منذ قرون وقرون، لسلطات زمنية ودينية، لا تعرف لسلطانها حدوداً».
متابعاً الأب زحلاوي: إلا أنه، يوم اختير مطراناً على القدس، عام 1965، عرف بالدليل القاطع واليومي، نمطاً جديداً من أشكال الظلم الهائل، الذي كان قد تعلم بعضه خلال دراسته السابقة في القدس، والذي كان يسمع عن بعضه الآخر، منذ أن أصبح كاهناً، من إعلام عربي مشوش، لاهث ومتناقض، هذا الظلم المروّع الذي كان قد حلّ منذ النكبة الكبرى، بأبناء القدس خصوصاً، وبأبناء فلسطين عموماً.
وفي الخامس من حزيران عام 1967، كانت الكارثة الكبرى، ويومها كان المطران كبوجي في القدس.
أتصور وتتصورون معي، دون أي تصنع، المعاناة القاسية التي اضطر المطران كبوجي لمواجهتها كل لحظة من كل يوم، والتي استطالت سنوات وسنوات، هو مطران القدس، إذ يرى بأم العين، ويسمع بأذنيه، ويستنتج بالواقع المنظور والمرعب، ما قد يكون مخبأ لأبنائه جميعاً في القدس وفي فلسطين، وفي ما هو أبعد من القدس ومن فلسطين…».

غيابه لا يعني غياب المواقف
وفي تصريح خاص لـ«الوطن» قال الشيخ محمد توفيق البوطي في كلمة بتأبين الراحل كبوجي: «لا شك أن للمطران كبوجي مواقف نعتز بها ونفتخر بها في نصرة القضية الفلسطينية ونصرة الشعب الفلسطيني، وغيابه عن الساحة لا يعني غياب المواقف بل سيخلد التاريخ تلك المواقف التي وقفها إلى جانب قضية فلسطين والمقاومة الفلسطينية».

عاش آلام سورية
وصرح مدير مركز الشرق الجديد للدراسات غالب قنديل: «إحياء ذكرى المطران المقاوم إيلاريون كبوجي هو جزء من تعبير تدين به الأمة كلها لهذا الرمز الكبير وخطوة في ترسيخ الأفكار التي حملها المطران كبوجي ونذر حياته لأجلها، وفي مقدمتها قضية تحرير فلسطين». مضيفاً إنه «كان لي حظ بلقائه في أيامه الأخيرة في روما في مطلع شهر كانون الأول وكان يشتعل حباً وشوقاً للقدس ولفلسطين كما كان يعيش آلام سورية وانتصاراتها وما يعانيه الشعب السوري والجيش العربي السوري في صد العدوان الاستعماري، المطران كبوجي رمز من رموز أمتنا وتكريمه اليوم هو جزء من دين كبير لهذه القامة التاريخية».

فلسطين وسورية جرح ومصير واحد
وقف في حفل تأبين المطران كبوجي الدكتور سمير رفاعي ممثل السيد محمود عباس رئيس دولة فلسطين، وقال كلمته التي عبّر فيها عن أواصر العلاقة بين سورية وفلسطين، مشيراً إلى متانة الارتباط التاريخي بين البلدين وعمق التوحد فيهما رغم المحاولات الاستعمارية بوضع الحدود، مركزاً على فكرة أن النضال السوري الفلسطيني حاضر عبر صفحات التاريخ ولا يمكن لمرء تجاهله، قائلاً: «لفلسطين وسورية قصة عشق لا تنتهي، وبينهما تاريخ حافل وطويل اختلطت فيه وامتزجت كل الحكايات والقصص، بين سهل حوران وجبل العرب والجليلي ومرج ابن عامر ودمشق ونابلس وحلب والقدس والناصرة، شواهد أبدية على تلك الحكايات، رسم ملامحها شعب واحد، عاش على تلك الأرض عبر التاريخ، صُنعت له حدود وحواجز لم تقف يوماً بين الأحلام والأماني الواحدة، نسج قصصها رجال عظام تجاوزوا تلك الحدود وصنعوا التاريخ بأياديهم، متحدّين قوى الشر والغدر وكل الاتفاقات التي قسّمت الوطن. الشيخ عز الدين قسام ابن جبلة استشهد على أرض جنين، والمجاهد سعيد العاص ابن حماة استشهد في أرض الخضر في بيت لحم، وكثيرون غيرهم تصدّوا للهجمة الصهيونية، وهم لم يدافعوا عن بلد مجاور بل دافعوا عن أرضهم وشعبهم… حتى اليوم فصول الرواية ما زلت لم تنته بعد، فلسطين وسورية الجرح واحد والمصير واحد، جاء المطران إيلاريون كبوجي ليرسم صفحة في هذا التاريخ، وليؤكد قصة العشق الأبدي على هذه الأرض المقدسة، لم يكن الراحل الكبير عابر سبيل في تاريخ فلسطين، لقد سطّر في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة صفحة مشرقة، تؤكد صدق الحكاية وطهارة العشق في قلبه، عربي، حلبي المولد، سوري، فلسطيني، ابن القدس، اجتمعت فيها الديانات السماوية كلّها وهو كان عابراً لكل الأديان واجتمعت حوله كل الأطياف والطوائف، ومثّل في قامته وحدة الشعب وآماله، كان رجلاً بحجم الوطن حيث قال مرة: «علينا أن نهدم كل هيكل يبنيه الاحتلال». قبل أن يجعل رعيته من كل الشعب الفلسطيني على السواء من مختلف الطوائف والمذاهب، وهذا لا يستطيع فعله إلا الرجال الرجال، ولا غرابة في ذلك لأنه قال عن نفسه: «إنني أحمل المسيحية عقيدة والإسلام روحاً»، وفي يوم الأم في آذار عام 1974 قال كلمة مشهورة: «هناك أهم من الوالدة.. الأرض هي الأم» لم يكتف بالمواقف الكلامية والنظرية لنصرة فلسطين بل هو القائل: «الوطنية ليست مجرد كلام بل هي فكر وممارسة وحضور».

جورج قرداحي: بكيت مرتين
من بين الحضور كان الإعلامي جورج قرداحي، الذي عبّر عن فخره واعتزازه بسورية وطنه، التي ما زالت من بين الأمة العربية هي من يدعم ويعزز نضال أبطالها، بعكس الآخرين الذين يتجاهلون ويتركون كل ما هو رمز للنضال وفخر للجهاد وللصمود على عتبات النسيان، متحدثاً: «أنا أنتمي إلى هذا الوطن وأنتمي إلى هذه الأرض وجئت إليها لحضور مناسبة تكريم المغفور له المطران كبوجي، وانطباعي في هذا الاحتفال التأبيني، لقد بكيت، مرة على هذه الأمة التي تتجاهل أبطالها، ولم يعد إلا سورية التي تكرم الأبطال، وبكيت أيضاً على سيرة هذا الرجل وتضحياته التي لم تكن معروفة لدى الكثير من الناس، ومعظمنا لم يكن يعرف من هو المطران كبوجي، وعملية النفي التي تعرض لها في السنوات الأخيرة من عمره، جهّلته في الرأي العام العربي، إنما هذا الرجل هو رجل حقيقي وإنسان وبطل حقيقي، رجل مناضل، مسيحي، مشرقي، كرّس نفسه وحياته في سبيل القضايا العربية، وفي مطلعها القضية الفلسطينية، وكانت رؤياه واضحة، ومشاعره واضحة وصادقة، كان يعبّر عما يجيش في صدره وقلبه من محبة لفلسطين وسورية، كل هذه الأرض العربية المقدسة، لهذا أنا بكيت، ولكن أقولها بصراحة خرجت فخوراً بما قدمته سورية من عرفان ووفاء لهذا الإنسان الكبير».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن