النهضوي الزهراوي ورحلة تحقيق الشخصية العربية .. شاع لدى الناس أن السياسة مبنية على الكذب
| سارة سلامة
في إطار منهجها المعتمد في تسليط الضوء على الأعلام والمبدعين في تاريخ سورية تصدر وزارة الثقافة والهيئة السورية للكتاب بشكل شهري سلسلة من شأنها الإضاءة على شخصية وعلم من الأعلام، واليوم يضع بين أيدينا الكاتب خليل البيطار كتاباً جاء بعنوان «النهضوي الزهراوي»، ومشروع استقلال سورية «1871-1916م».
وتساءل البيطار في مدخل الكتاب «لماذا نعود إلى مشروع الزهراوي بعد مرور قرن ونيف؟
لجدواه وراهنيته؟ أم لجلال مقصده، بأن الاستقلال والتحرر والسيادة لا تعطى، بل تنتزع بوحدة الشعب وتضحياته بمستوياتها كلها، وأعلاها الاستشهاد؟
سيرة الزهراويّ
هو عبد الحميد محمد شاكر إبراهيم الزهراوي، من مواليد مدينة حمص عام 1871م، وأسرته ذات نسبٍ يتّصل بالإمام الحسين بن علي وفاطمة الزهراء.
درس في المدرسة الرشدية بحمص، وأتقن اللغتين العربية والتركية، وكان نابهاً بين أقرانه، ودرس الأدب العربي علي يد الشيخ مصطفى الترك، ودرس الفقه الحنفيّ على يد الشيخ حسن الخوجة، وأحاط بعلوم الحديث والتفسير على يد الشيخ عبد الساتر الأتاسي، محدث زمانه، كما أقرأ الأصول والأحكام الشرعية على يد الشيخ عبد الباقي الأفغاني، وكان واسع المطالعة في كل فن. ودراسته على يد خيرة مشايخ حمص أوجدت لديه حافزاً، لأن يحمل مسؤولية ثقافية قومية، وينهض بها.
سافر إلى الآستانة، للتعرف إلى معالم مركز السلطنة، وانتقل بعد ذلك إلى مصر، حيث العديد من الأسر التجارية والثقافية السورية واللبنانية المبتعدة عن ملاحقات شرطة الولاة العثمانيين ومعظم هذه الأسر تربطها صداقة بأسرته، ونزل في دار نقيب الأشراف توفيق البكري، وجالس عدداً من الأدباء والفقهاء، وحاورهم ببراعة، وحظي بإعجابهم ومودتهم، ثم عاد إلى حمص.
الصحفي المخضرم
كتب الزهراوي مقالات كثيرة في عدد من الدوريات العلنية الصادرة في كل من الآستانة والقاهرة وحماة، وحاور شخصيات سياسية وثقافية، وأعيد نشر عدد من مقالاته لأهميتها، ولاقت مقالاته قبولاً عند القرّاء، وقد حرّر في الصحف والمجلات التالية: المؤيد، الجريدة، الزهور، لسان العرب، ثمرات الفنون، مجلة المنار وجريدة الحضارة التي أسسها بنفسه، وصدرت أسبوعية عام 1910م في الآستانة وجعل شعارها «قل ما تعتقده الحق، وتظنه الأصلح من الآراء والأصدق والأصح من الأنباء»، وساعده في تحريرها تلميذه ورفيق دربه في قول الكلمة الجريئة رفيق رزق سلوم، وقد نال مثله شرف الاستشهاد على أرجوحة الشرف، وتركزت مقالاتها في الدفاع عن الحقوق العربية، والدعوة إلى مساواة الجميع في الوطن، وقد أوقفت الجريدة عن الصدور عام 1912م بأمر سلطاني.
وهذه مقتطفات مما حرره الزهراوي من مقالات في صحيفة «الجريدة» الصادرة في القاهرة».
الصدق والكذب في السياسة
إن اللسان هو أعظم وسائط السياسة، وذلك أن كل شيء من الشؤون الاجتماعية للإنسان يدور على محور البيان، فالسعادة بهذا النطق منوطةٌ، والبلاء موكل بالمنطق.
وقد شاع لدى الناس أن الكذب في السياسة غير منفورٍ، أو إن السياسة مبنية على الكذب، وأن نجاحها به. وسبب ذلك أن أكثر الناس يبنون أحكامهم في الأغلب على حادثة، أو بضع حوادث، يشاهدون منها الظواهر، وقلّما يبدو لهم منها الغوامض وينسون في الأكثر ما يشهد من الحوادث الأخرى الكثيرة لضد ما استنتجوه من هذه الحوادث القليلة.
والحقيقة أن الكذب لأجل المنافع العموميّة لم يكن أساساً للسياسة الناجحة يوماً من الأيام، بل ما زال منفوراً من جهتها، كما هو منفور من كل الجهات.
شاعرية الزهراوي
كتب الزهراوي قصائد عديدة، لم تجمع في كتاب مستقل، تناول فيها موضوعات فكرية وفلسفية وتأملية، ورثى فضلاء زمنه، تميز أسلوبه فيها بالطلاوة وعذوبة الإيقاع، وحسن التصوير، وجزالة الألفاظ بعيداً عن التكلف والإطالة.
وفي هذه القصيدة رثى الشيخ الإمام المتنور محمد عبده، أرسلها معزياً إلى الشيخ محمد رشيد رضا برحيل العلامة والمصلح الكبير، قال فيها:
نعى البرق شيخ العصر فاستحوذت ظلما وأرعدت الألباب إذ أمطرت غما
توارى بحجب الغيب عنا محمد إمام الهدى السامي بحكمته العظمى
محـمد لا نأسى لفقد سناك بل سناؤك باق بيننا يكشف الظلما
البرلماني الجريء
ركز الزهراوي بعد انتخابه نائباً عن ولاية حماة على الأهداف الآتية:
توحيد القوى للدفاع عن الدستور، ومقاومة محاولات السلطان عبد الحميد لوأد الحركة الدستورية الوليدة.
الوقوف في وجه حزب الاتحاد والترقي.
الدفاع عن مشروع الإصلاح العام، ونقد التأخر والجمود والتقليد الأعمى.
الدفاع عن حقوق العرب ومساواتهم مع قاطني أراضي السلطنة، ولم يكتف الزهراوي بنشر مقالات في الصحف بل انتخب كي يمثلهم في مجلس «المبعوثان»، العثماني آنذاك، وكان صوته الأجرأ في طرح المطالب المحقة للولايات العربية من بين ممثليها العرب، وأظهر حرصاً على إصلاح الإدارات، ومواجهة الفساد المتفشي، واستغلال السلطة للأغراض الخاصة.
الشهيد السعيد
لم يكن صبح السادس من أيار عام 1916م، شبيهاً بالصباحات التي سبقته، لأن أصوات رموز الأمة، ودعاة استقلالها، وصورهم على أعواد المشانق هزت وجدان السوريين واللبنانيين والعرب جميعاً، وكشفت خداع الحكومة السلطانية وأطماعها، وهيأت لتفجر الثورة العربية الكبرى التي أعلن انطلاقتها الشريف حسين في 10 حزيران عام 1916م، أي بعد شهر من جريمة السفاح العثماني جمال باشا.
ومما ذكره الشيخ محمد رضا في فضائل الزهراوي قوله «كان الشهيد السعيد نابغة من نوابغ السوريين، ما عرفت بلاده كنهه، ولا قدّرته قدره، على أنها لم تقتصر في تعظيمه، وفي الاحتفال له والحفاوة به أيام سفره، وأيام قدومه، إذ عرف الجمهور منه في أواخر سنيّ حياته كما كان يعرف الآحاد، إنه أحد أشراف البلاد المنصرفين لخدمة الأمة بكفاءةٍ واستعداد».
مكانة الزهراوي
تأثير الزهراوي الشيخ المستنير، والنهضوي الرائد والإعلامي الجريء، في الأجيال التي دحرت العثمانيين، وقاومت الفرنسيين في ميسلون وجبال اللاذقية، وغوطتي دمشق وفي سائر أرجاء سورية عبر ثورات وانتفاضات وإضرابات، غرّتها الثورة السورية الكبرى التي وحدت الشعب كله ضد الغزاة الفرنسيين، وأجلتهم عن التراب السوري الغالي، وتأثيره في الأجيال التي عاصرت الاستقلال، وفرحت لجلاء المحتلين الفرنسيين في17 نيسان عام 1946م، ونعمت بثمراته الطيبة، وفي الأجيال التي دخلت القرن الحالي «قرن النكبات والكوارث»، كبير، لأنه لفت الانتباه إلى المحطات المضيئة في التراث العربي والإسلامي والمشرقي والعالمي، وأكد أن هذه المحطات الزاهية الحضارية محفزة، وهي ليست للتغني والاستعراض البائس، والجيل الناهض المعاصر مدعوّ إلى أن يبني عليها، ويضيف إليها ما يفيد مجتمعه، وينفع الإنسانية كلها.