أستانا والمخاوف التركية
| مازن بلال
خف التمثيل التركي في لقاء أستانا الثاني، وظهرت بوضوح صعوبة التوصل إلى تفاهمات تلغي القلق من انهيار وقف إطلاق النار، فالتأخير الذي حدث على الاجتماع أوضح «هشاشة» الموقف التركي الذي لم ينقلب على روسيا، لكنه أصبح أكثر حذرا في رسم تحالفاته الإقليمية، وفي إيجاد صيغة مختلفة للدور الذي لعبته أنقره على امتداد السنوات الست المنصرمة، ورغم ذلك فإن موقف أنقرة يمكن اعتباره «عالقاً» في منطقة يصعب المرور منها من دون تغير نوعي في مجمل السياسات التركية، وعلى الأخص علاقاتها مع الناتو تحديدا.
كان من المتوقع أن ينتقل أستانا2 إلى تحرك مختلف، فهو أنجز ملفات لا ترقى إلى عمق الحل السياسي، ولكنه في الوقت نفسه استطاع التخلص من عبء الضغوط الإقليمية التي ظهرت عبر المعارك في مدينة درعا، وهي عملياً رد على المشاركة الأردنية في أعمال اللقاء، والأمر الثاني نوعية الوفد الذي شكلته مجموعة الرياض الذي حاول تجاهل كل ما يجري في العاصمة الكازاخية، ويمكن قراءة المجريات التي حدثت ضمن اتجاهين:
الأول: هو عدم قدرة أنقرة على إدارة صراعها الإقليمي بشكل متوازن، فهي دخلت في احتمال تشكل نظام دولي جديد بعد رحيل إدارة الرئيس باراك أوباما، لكنها في الوقت ذاته غير قادرة على تحديد موقعها القادم في ظل جدل حول وظائف حلف شمال الأطلسي.
بقيت تركيا الحديثة منطقة «إسناد» إقليمي؛ فشكلت حزاماً جغرافياً لحلف الناتو، وعبر تحكمها بالممرات المائية للبحر الأسود قدمت ضغطا مهماً على روسيا في حقبتها السوفيتية أو حتى ما بعد هذه الحقبة، لكنها منذ وصول العدالة والتنمية تحولت باتجاه دور مختلف تماما عبر سعيها للعمل على تشكيل الشرق الأوسط الجديد، والانهيارات التي حدثت في المنطقة توضح أن الموقع التركي يعاني من عدم القدرة على تحديد الدور اّلإقليمي القادم لأنقرة، الأمر الذي جعل المواقف التركية الأخيرة غير واضحة ومتأرجحة على احتمالات لموازين قوى ربما تتشكل مستقبلا.
الثاني: يرتبط بقدرة أنقرة على التحكم باحتمالات غير محسومة في الشمال السوري؛ ابتداء من الوضع الكردي ووصولا إلى القدرة على محاصرة النصرة وإدارة المجموعات المسلحة الأخرى، من دون أن ينتقل الإرهاب بشكل أقوى إلى أراضيها.
المشكلة الأساسية أن تركيا تعاني من أمنها القومي مثلها مثل باقي دول المنطقة، الأمر الذي يجعل حساسيتها لحل الأزمة السورية مرتبطاً بالعديد من التوازنات الدولية، وهي تعرف تماما أن العودة للسيناريوهات القديمة باتت مستحيلة، وأن الاستناد إليها من السعودية لدعم المجموعات الإرهابية أصبح عبئا على الدولتين، ولكنها في الوقت نفسه غير قادرة على تحديد نهايات لبعض المسارات القائمة في سورية، فالدعم الأميركي لـ«القوات الكردية» مقلق بالنسبة لها، وهي غير متأكدة من قدرتها على تغيير الموقف الأميركي.
كل ما حدث في الأستانة يتجه نحو موقع واحد هو «الخوف التركي»، فلعبة التوازنات التي أتقنها رجب طيب أردوغان لم تعد كما كانت، وهو ما يجعل أنقرة مترددة في التعامل بشكل كامل مع الحل السياسي، ولقاء أستانة لم يفشل لكنه أوضح حدود الترويكا الروسية – الإيرانية – التركية في إعطاء أنقرة مساحة أمان لدورها الشرق أوسطي.