بين تتريك الشمال وأمركته: هل من حربٍ شاملة في المنطقة؟
| فرنسا – فراس عزيز ديب
في منتصف الشهر الماضي وفي مقالٍ بعنوان: عن «الغارة الإسرائيلية» و«رحيل أوباما».. الضرب بـ«الأستانا» حرام؛ قلنا تعقيباً على الإعداد لـ«الأستانا» وما تخلله من هجوم لمسؤولٍ تركي على إيران:
(.. هذا يعني أن ابتسامة «ظريف» العريضة يوم التقى «جاويش أوغلو» عشيةَ إخفاق «مسرحية الانقلاب» قد لا تدوم، ونأمل مستقبلاً ألا تنسحب هذه الصدمة على وزراء خارجية آخرين ما زالوا يعتقدون أن العودة التركية ممكنة، فالتركي بعد أن استتب له الأمر بدأ نوعاً ما يقلم مخالبهُ، لأن وجهه الحقيقي لن يظهر إلا بعد بدء مؤتمر «الأستانا»).
منذ انتقال العملية العسكرية باتجاهِ «الباب» إلى مرحلةٍ متقدمةٍ تضمنها اقترابَ قوات الجيش العربي السوري جنوباً، والميليشيا المدعومة تركياً في الشمال نحوها، عادت اللهجة الرسمية للنظام التركي للارتفاع على نحوٍ غير مسبوق، من حديث المناطق الآمنة إلى ما يجري على الأرض من «تتريك» للكثير من الميليشيا أو المدن الحدودية كـ«إعزاز». انطلاقاً من ذلك يراودنا السؤال التالي: ما جدوى مباحثات «الأستانا» إذا كان الواقع يعاكس الأكاذيب التي يطلقها النظام التركي حول «الحل السياسي» والحرب على الإرهاب؟
كانَ من المنطقي لنظامٍ امتهن الخِداع والمتاجرة بدماءِ الأبرياء أن ينحني لعاصفة «الأستانا» في جولتها الأولى بالحدِّ الأقصى الذي يمكّنه من الظهور بمظهرِ اللاعب الأساسي في هذه الحرب، أدركَ أن الوضع العام يحتِّم عليهِ ذلك، بما فيها معركتهُ لكسبِ الوقت حتى يبان الخيط الأبيض من الأسود في إستراتيجية «ترامب» القادمة. لكن مع توالي المباحثات، بدا واضحاً لمن يريد أن يرى الأمور بعقلانيةٍ أن النظام التركي بدأ مرحلة التملص من كل التفاهمات، من تعمد التأخر بالوصول برفقة وفد الجماعات الإرهابية الذي لا يمكن لنا تفسيره إلا رغبة «أردوغانية» بالإيحاء بعدم الاكتراث، إلى التبدل في خطاب وفد الجماعات الإرهابية الذي وصل إلى حد العودة إلى ما قبل «تحرير القصير» عندما اجتروا عبارةً أكل عليها الدهر وشرب وهي: جاهزون للتفاوض حول انتقال السلطة.
كيف يمكن لمن يدَّعون أنهم معارضة أن يعودوا للمطالبة بما لم يأخذوه عندما كانت «حلب» تحت مرمى قذائف حقدهم، و«ريف اللاذقية» خاصرةً رخوة، ودمشق تحت خطّ النار الريفي؟ الإجابة بسيطة؛ هذا ليس كلامهم والإدارة الأميركية الجديدة لا تزال بعيدة «عملياً» عن مسار الملف السوري؟ إذاً هل بدأ التركي فعلياً مرحلة الانقلاب؟ عندها يصبح السؤال المنطقي؛ ما الدوافع التي تجعل التركي ينحو هذه النحو؟
غالباً ما كنا نكرر فرضية أن عدم انتظار ما سيقوله «ترامب» سيعني أن كل ما يجري هو مضيعة للوقت. حتى الآن لا يبدو أن إستراتيجية «ترامب» تجاه الملف السوري ليست واضحة فحسب، بل يبدو أن «اللا إستراتيجية» التي تعاني منها إدارة «ترامب» تنسحب على كل الملفات، فعلى سبيل المثال، يريد محاربة «التطرف الإسلامي» بل ربما هناك من يرى في كلامه «محاربة للإسلام» بحد ذاته، ومن جهة ثانية يرى بـ«نظام أردوغان» ومشيخات النفط حليفاً لتحقيق الاستقرار في المنطقة!
أما النقطة الثانية التي يبدو أن «نظام أردوغان» تلقفها جيداً، وهي «الصراع العربي الإسرائيلي»، فعندما يعلن «ترامب» أن هناكَ إمكانية لتفكيك الاتفاق النووي مع إيران، فهذا سيعني حكماً عداء أميركياً مع الأوروبيين، والأميركي سيكون ساعتها بحاجةٍ للبديل المقنع. كذلك الأمر عندما يعلن «ترامب» التزامهُ نقل السفارة الأميركية للقدس المحتلة، من ثم إذابة حل الدولتين للأبد تحديداً بعد قرار الكنيست الأخير الذي يسمح للمستوطنين بالاحتفاظ بما يفوق على 40 بالمئة من أراضي الضفة، فهذا يعني حكماً أن الأميركي سيجد إلى جانبه كل «مشيخات الاعتدال النفطي»، فكانت الجولة التي قام بها «أردوغان» لمرابع «طويلي العمر» لرفع لواء التحالف تحت راية «ترامب»، وإن كانت الواجهة هي العداء لإيران لكن يبدو أن الأساس هو تذويب «القضية الفلسطينية» وإنهاك سورية بالقدر المستطاع وصولاً لمستقبلٍ يريدونه بـ«جيش حر وطني» يخضع عسكرياً للإدارة التركية ومالياً للتمويل الخليجي، عندها يصبح الدور الإيراني تحصيل حاصل، لكن أين الروسي في كل ما يجري؟
يبدو الموقف الروسي للبعض كمن يتعاطى بالأخلاقيات وهو محاصرٌ من جماعات «قطاع الطرق»، لا يستوي الأمر منطقياً. لكن واقعياً إذا افترضنا أن الروس يحاولون الذهاب بـنهج «الأخلاقيات» حتى النهاية لكنهم كذلك الأمر يحاولون حتى الآن انتظار وضوح الرؤية في إدارة «ترامب» التي فيما يبدو ستولد مفككة؛ ليس من السهل أن يخسر «ترامب» في الأسابيع الأولى لولايتهِ أحد أهم مساعديه، والتهمة خارج السياق المألوف لمسار السياسة الأميركية أي «التخابر مع الروس»، وهو ما يوازيه في باقي الدول «التخابر مع العدو». ليس ذلك فحسب بل الأمر بدا مكملاً مع تصريحات لـ«ترامب» ذات نفسه يتحدث فيها عن خشيتهِ من «تسريب مكالماتهِ الهاتفية»، فهل هذا يعني أن لدى «ترامب» فعلياً ما يخشاه لدرجةٍ تدفعنا للقول إن تسريب المكالمات سيكون الرد الذي وعدَ به «أوباما» قبل مغادرته البيت الأبيض على تسريب محتوى البريد الإلكتروني لـ«هيلاري كلينتون» التي يراها الديمقراطيون سبباً أساسياً لوصول «ترامب» لكرسي الرئاسة؟ هل أن ما يتعرض له «ترامب» من ابتزازٍ في ملفاتٍ عدة لم يستوجب التهدئة الروسية فحسب، بل جعل «الصغار» يلعبون في الوقت الضائع حتى وصل الحديث عن إمكانية اندلاع المواجهة الكاملة في المنطقة كما تريد «إسرائيل» نهاية حتمية؟
وبمعنى آخر:
هل أن تفكيك الكيان لبعض المراكز الحساسة منها «خزان الأمونيا» هو جزء مما يجهز له الحلف الذي تتنامى أضلاعه في المنطقة لخوض حربه التي يستند فيها أساساً على ثابتتين؛ سورية التي أنهكتها الحرب و«حزب اللـه» الذي شتَّتتْ قواهُ هذه الحرب؟
يوماً ما تحدثت «كوندوليزا رايس» عن الفوضى الخلاقة التي ستؤدي بالنهاية إلى ولادة «شرق أوسطٍ جديد»، حتى الآن بدا واضحاً أن مشروع الفوضى نجحَ، لكن ما لم ينجح حتى الآن هو ولادة «الشرق الأوسط الجديد»، لأن هذه الولادة تبدو عملياً مرتبطة بفوضى تكون رقعتها الجغرافية أكثر اتساعاً تؤدي إلى ولادة «نظام عالمي جديد»، فماذا ينتظرنا؟
قبل أمس كان هناك تصريح صدر عن «وزارة الدفاع الأميركية» مفاده أنه لم يعد بإمكان أوروبا الاعتماد علينا بما يتعلق بالقضايا الأمنية. ردت عليهم «إنجيلنا ميركل» بالعمل الجاد لتحسين العلاقة مع روسيا، أضف إلى ما يحكى عن تحذيراتٍ ألمانية لإدارة «ترامب» من الذهاب بعيداً في المساواة بالعلاقة بين الروس والأوروبيين، فهل يعني هذا الأمر أن العلاقة الأوروبية الأميركية دخلت مرحلة السبات، وهو ما يدعم فكرة «ترامب» بأن «الناتو» لم يعد له أهمية، تحديداً بعد أن حوّل الساسة الأوروبيون بلدانهم إلى مجرد تابعٍ للولايات المتحدة، وتحولت أوروبا بشكلٍ عام إلى مجرد عبء على الولايات المتحدة لكونها بعيدة عن المسرح الدولي. هذا الأمر بدأ يتجسد بوضوح، وإذا كانت الحروب بشكلٍ عام «قذرة» فإن التسلح بالمبادئ أو الأخلاقيات في السياسة هو بمنزلة الموت البطيء؛ وربما فإن ظهور تحالفاتٍ جديدة في المنطقة والعالم بما فيه ما تم الإعداد له بما يتعلق بالشأنين السوري والفلسطيني تحديداً وإن كانت الواجهة «ردع إيران» سيثبت هذه النظرية. وبمعنى آخر:
واهمٌ من يظن أن الأتراك سينسحبون من «الباب» بالتهديد، وواهمٌ من يظن أن الأميركيين سيتخلون عن الشمال الشرقي لسورية، وإذا كان الأتراك يشنون حملة (تتريكٍ) للشمال السوري فإن «الإسرائيليين» لن يضيعوا هذه الفرصة أبداً. إنه النظام الدولي الجديد الذين سيسعون إليه والمرتكّز أساساً على «فوضوية ترامب»، لكن ماذا لو فوجئوا وقتها بأن «صمت الحليم قوة»، وأن «قوه الصمت» سيرونها بما هو أبعدَ أبعدَ من «حيفا». لننتظر ونر لكن إياكم أن تجعلوا «أردوغان» يخدعكم للمرة الألف…