ثقافة وفن

قبة السيار… تستقبل القادم لدمشق بعنفوان التاريخ وحضارة الإنسان

| شمس الدين العجلاني

كل قادم لدمشق من طريق الجندي المجهول، تستقبله قبة حمراء مرتفعة على أربعه أعمدة لتلقي عليه التحية وأنه أصبح في أحضان دمشق.
منذ نعومة أظفارنا نعلم أن هذه القبة هي «قبة السيار» وكنا نسمع قصصاً وروايات عنها، تارة يقولون إنها مقام لرجل صالح يتبارك الناس به، وتارة أخرى يقولون هي أول مرصد فلكي إسلامي يرصد الكواكب والنجوم.
حكاية «قبة السيار» ككل حكايا دمشق تختلط فيها الأسطورة مع الواقع والخيال! ويختلف التاريخ في رواياته ويختلف التاريخ في الزمان والمكان!!
وتبقى قبة السيار من أهم معالم دمشق، تستقبل القادم لدمشق بعنفوان التاريخ وحضارة الإنسان.
قبة السيار هي تلك القبة الجاثمة فوق جبل الجنك وهو الجزء الغربي من جبل قاسيون، والمشرفة على خانق الربوة من الجنوب إلى الشمال، وإلى الخلف منها امتداد قاسيون قبل أن يخترقها الطريق الحديث الواصل بين حي المهاجرين وضاحية مشروع دمر، وإلى الشرق من هذه القبة وتحتها قليلا كانت بقايا أطلال يظن بأنها دير مران القديم الذي اندثر على مر الأيام وذكره مؤرخو دمشق الأوائل.

تعددت الأسماء
أخذت قبة السيار عدة أسماء على مر الأيام والسنين، فهي قبة النصر، أو قبة السيار، أو قبة مرصد جبل قاسيون، أو المرصد، أو الاستراحة… هذه الأسماء منها ما أطلقه عليها العامة من الناس، مثل «الاستراحة» لأنها في يوم ما كانت محطة استراحة للمسافرين القادمين والمغادرين من وإلى لبنان، ذلك أن الطريق إلى لبنان كان يمر قديماً من الجبل من جانب القبة، لذا كانت محطة لاستراحة المسافرين.
أما «قبة النصر» فهي على أغلب الظن شيدت لذكرى انتصار أحد الأمراء، والمرصد لأنها كانت مكاناً توقد به النيران لتنير المكان.

الغاية من إنشائها
كما اختلف على تسمية القبة اختلف أيضاً على الغاية من إنشائها، فقيل إنها أنشئت لتكون «مخفراً» أي مكان تجمع «للعسس» و«العسس» هم الشرطة أو الجنود، الذين يجوبون الطرقات ليلاً، ساهرين على تأمين الناس وممتلكاتهم والحفاظ على النظام، وهذا ما يؤكده رجال المؤرخ أحمد دهمان بقوله: (إنها على الأرجح من العصر المملوكي وهي أشبه بـ«مخفر» يقيم فيه العسس ورجال الحكومة ليراقبوا الطريق)، وقيل إنها مكان لقبر ولي مجهول، أو هي مكان تعبّد لرجلين صالحين «من أصحاب الخطوة» أحدهما اسمه سيار فأخذت اسمه، أما قبة النصر فقيل إن السلطان الأشرف قايتباي أقامها تذكاراً لانتصاره على أحد أمراء التركمان، وقيل عكس ذلك بأن قبة النصر قبة أخرى كانت قائمة بالقرب من «قبة السيار» وبناها برقون الصالحي نائب دمشق في عهد السلطان قايتباي، وقيل هي، مرصد جبل قاسيون لكونها مرصداً فلكياً يرصد النجوم والكواكب.

قبة السيار
الاسم الأشهر لهذه القبة هو قبة السيار، التي عرفها الدمشقيون منذ عصور قديمة، وتقع على أحد الجبال الملحقة بجبل قاسيون والذي يدعى جبل «الجنك». قبة السيار قبة حجرية حمراء اللون يرفعها أربعة أعمدة ظاهرة للعيان لكل قادم لدمشق.
هذه القبة حيرت المؤرخين في الزمن الذي شيدت فيه أو في الغاية من إشادتها، بعضهم نسبها إلى قائد عسكري اسمه (نصر بن سيار)، فأخذت اسمه، وبعضهم نسبها إلى الخليفة العباسي المأمون وأنه أنشأها بدمشق على قمة جبل حنيك لتكون أول مرصد فلكي عربي لمراقبة النجوم والكواكب، وإيجاد جداول فلكية مبنية على أرصاد حديثة للشمس والقمر، بل إن مؤرخ دمشق ابن عساكر يشير إلى أنها (قبة المرصد) التي أنشأها الخليفة (المأمون) لتكون موقداً يوقد في الليل كمنارة لعساكره.
في حين ينسبها ابن طولون شمس الدين محمد بن علي بن أحمد بن علي بن خمارويه الصالحي الدمشقي، مؤرخ الشام في عصره وأحد كبار الشخصيات العلمية بدمشق، إلى الأمير سيار الشجاعي أحد أمراء المماليك نائب دمشق في العهد المملوكي في القرن السابع للهجرة الثالث عشر للميلاد، ولكن طراز عمارتها جعل المؤرخ عبد القادر الريحاوي ينسبها إلى العهد الأيوبي.. على أن الباحث الألماني كارل ولتسينجر أشار إلى أنها تعود للفترة المملوكية بين عامي 1300 و1400م وذلك بحسب الكتابات والنقوش التي شاهدها داخل القبة، في حين يذكر المؤرخ قتيبة الشهابي: «يعتقد أن هذه القبة ترجع للقرن الثاني عشر أو الثالث عشر للميلاد، السادس أو السابع للهجرة وذلك لوجود بقايا لكتابات محفورة في داخل القبة وحول رقبتها».
ويبقى أغلب المؤرخين والباحثين يشيرون إلى أنها أنشئت من الأمير سيار الشجاعي في العهد المملوكي، ويخالف هذا الرأي بشدة مؤرخ دمشق قتيبة الشهابي بقوله: «فمنهم من ينسبها إلى الأمير سيار الشجاعي من العهد المملوكي، وهذا وهم، لأن من نسبها إلى سيار الشجاعي المذكور يكون قد خلط بينه وبين نائب الشام المملوكي سنجر الشجاعي».

إنها مرصد فلكي
برغم ما ذكرنا من اختلاف في الرأي بين المؤرخين والباحثين العرب والأجانب، حول «قبة السيار» من حيث تاريخ إنشائها والغاية منها، فإن المشهور والمعروف لدى الأغلبية العظمى من هؤلاء المؤرخين والباحثين أنها أول مرصد فلكي عربي أقيم بدمشق، وأول مرصد بني في الدولة العربية الإسلامية، بني المرصد «قبه السيار» خلال عهد الخلفية العباسي المأمون، في عام 214هـ- 829م وكان أحد مرصدين أمر المأمون ببنائهما، وأما الآخر فقد كان مرصد الشماسية في بغداد. كان الغرض الأساسي من بناء مرصدي قاسيون وبغداد هو مراجعة أرصاد الفلكيّين الإغريق والهنود القدماء عن الشمس والقمر، لكي يستطيعوا بناء جداول فلكية مبنيَّة بالكامل على مثل هذه الأرصاد، وكذلك مراقبة الشهور ووضع التقويم الهجري. وكان من مرافق المرصد دائرة رخامية لقياس زوايا الأجرام السماوية بقطر 5 أمتار، ومزولة بعقربٍ مركزي بارتفاع أكثر من 5 أمتار. أرسل المأمون بعثةً فلكية إلى المرصد «قبة السيار» لتولِّي تشغيله منذ عام 215 وحتى 218 هـ، استمرَّ العمل في المرصد حتى وفاة المأمون.
قام الخليفة المأمون بإرسال بعثة فلكية إلى المرصد «قبة السيار» لإجراء أرصاد بين عامي 215- 218هـجري. ‏ وأن من علماء الفلك العرب الذين عملوا به ابن الشاطر الدمشقي وهو أبو الحسن علاء الدين علي بن إبراهيم بن محمد الأنصاري المعروف بابن الشاطر، وهو عالم رياضيات وفلك ومبتكر النظام الشمسي ومخترع آلات رصد الكواكب اشتهر في القرن الثامن، والبتاني وهو محمد بن جابر بن سنان البتاني، وغيرهما من العلماء العرب الذين عملوا بمرصد مراغة في أذربيجان ومرصد قبة السيار على قمة قاسيون دمشق.
ويذكر أخيراً أن الجمعية الفلكية السورية أقامت احتفالاً في مرصد قاسيون «قبة السيار» عام 2009 لإحياء التراث الفلكي العربي والإسلامي.

النابلسي وقبة السيار
عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني النابلسي الدمشقي (1050هـ- 1143هـ/ 1641- 1730م) شاعر سوري وعالم بالدين والأدب. ولد ونشأ وتصوف في دمشق وتنقل في بلاد عديدة كالحجاز ومصر وفلسطين وباقي البلاد السورية واستقر في مدينته دمشق وتوفي فيها.
قام النابلسي بزيارة قبة السيار فأنشد يقول:
أتينا قبة السيار يوماً
مع الأصحاب نركض في الصباح
وقد كان المسير على رياض
معطرة بأنفاس الرياح
فيا لك من قبة رفعت وطارت
على نسر السماء بلا جناح
تبث بها النسائم عرف زهر
من الوادي وهاتيك النواحي
ولكن الزمان سطا عليها
وريعت منه بالأسد الكفاح
ومنه هدمت أركان عزٍّ
تُخبر عن علا أهل السماح
حكايا دمشق تكمن فيها الحقيقة والواقع والخيال والأسطورة، حكاية دمشق تعبق بالحضارة والإنسانية والإبداع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن