كرّسته موهبته الصادقة والعفوية شاعراً كبيراً وصوتاً شعرياً … لشعر الماغوط أصابع فولاذية… وأظافر قوية… تنشب في وجه البلادة والتكرار والسفاهة والفساد
| سوسن صيداوي
لأنّ الثقافة هي من أهم الأسس التي تقوم عليها المجتمعات، ومنها يكون الانطلاق نحو الحضارة ومواكبة العصرنة، ولأنه واجب على القائمين التشجيع، تُصدر وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب كتباً شهريةً، لفئة اليافعين من الشباب، لتحقيق الغرض الأسمى في النهوض والبناء، ومن السلسلة التي قامت الوزارة بنشرها، كتاب بعنوان محمد الماغوط، بقلم الكاتب والقاص ناظم مهنا، جاء الكتاب بواقع 44 صفحة، حاولت أن تلّخص مسيرة طويلة من العطاء، لا يمكن لحروف ولا حتى جمل أن توجزها أو تلّخصها، وفي هذا الكتيّب سعى المؤلف أن يقدّم معلومات، قدر المستطاع، كي يُعرّف اليافعين من الشبان السوريين على علم من أعلامها.
الطفولة… مُرّة
«في الشعر يمتطي الماغوط حلمه ويغيب، وهو يبحث عن الحماية منذ صغره» كلمات باحت بها الشاعرة الراحلة سنية صالح زوجة الماغوط، في مقدمتها لمجموعة «حزن في ضوء القمر»، بهذه الكلمات الموجزة عبّرت عن البعد الطفولي في شخصيته، فلطالما كان عناد الطفولة هو السمة الغالبة على قصائده، وقليلة هي القصائد التي كتبها ولا يعبر الطفل أو خيال الطفولة بين كلماتها، الطفل غير السعيد، طفل الفقر والذكريات المريرة والبرد، حيث يقول في قصيدة من قصائده:
«في طفولتي
كنت أحلم بجلبابٍ مخطّط بالذهب
وجوادٍ ينهب الكروم والتلال
الحجرية…».
إذاً أعلن شاعرنا الراحل للعالم ببراءة وبصراحة مشاكسته وعصيانه وخروجه عن الطفولة الأولى، ليدخل في طفولة الكبار الذين تزداد مطالبهم، ويعلو احتجاجهم في وجه الآخرين الذين لا يكترثون لصوت الشعراء، فكيف بهم مع الأطفال الفقراء؟.
من السلمية إلى الحياة
لم ينس الماغوط طفولته ولا أمه ولا أباه أو حتى حبيبته «ليلى» التي قد تكون رمزاً لبلدته السلمية أو وطنه سورية، فمن مدينة السلمية على أطراف البادية السورية، خرج الماغوط إلى الحياة، وعاش طفولته وصباه في بلدته حتى انتقل إلى دمشق ثم بيروت، ومنهما إلى العالم العربي وبعض مدن العالم، السلمية حاضرة في شعره حيث يقول في قصيدة «الشتاء الضائع» من ديوان «حزن في ضوء القمر»:
«بيتنا الذي كان يقطن على صفحة النهر
ومن سقفه المتداعي
يخطر الأصيل، والزنبق الأحمر
هجرتُه يا ليلى
وتركتُ طفولتي القصيرة
تذبل في الطرقات الخاوية…»
كانت بالنسبة له موطن ذاكرته الأولى وفيها عاش صباه ورضع منها الفقر والحرمان، ويروي عن طفولته، كما يروي طفل للآخرين ما علق بذاكرته من أحداث وصور ومشاهدات، حفرت عميقاً في وعيه، وتركت أثراً في شعره، حيث يقول «في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي لم تكن السلمية مدينة، كانت قرية نائية وباسلة، تنظر إلى وحلها ودخانها وعيونها المحمرّة، كما تنظر الفرس إلى أجراسها… أما التاريخ المتسلسل في المعارك الكبرى فيظّل في جيب المختار…».
وفي الحقيقة إن السلمية على الرغم من قلة عدد سكانها إلا أن لها تاريخاً مجيداً ومكانة كبيرة في ذاكرة التاريخ، هذه البلدة السورية العريقة ليس غريباً أن يخرج منها الشعراء والأعلام، منهم الماغوط نفسه الذي تحدّث عن مدينته في صورة شعرية وصفيّة يقدّمها شاعر، قائلاً:
«يحدّها من الشمال الرعب
ومن الجنوب الحزن
ومن الشرق الغبار
ومن الغرب الأطلال والغربان
فصولها متقابلة أبدا
كعيون حزينة في قطار
نوافذها مفتوحة أبداً
كأفواه تنادي».
في النشأة
جاء في الكتاب أن الماغوط قدِم إلى دمشق عام 1948 كي يدرس في معهد زراعي في الغوطة، في تلك الفترة كانت تعصف بالوطن سورية اضطرابات سياسية واجتماعية، وكان نال الوطن الاستقلال وجلا الاستعمار عن أرضه حديثاً، كما ذكر المؤلف: «عاش الماغوط كل تلك الأحداث، وتأثر بها كما تأثر كل أبناء جيله، وكانت المأساة الكبرى، مأساة فلسطين بمنزلة بركان تفجّر معه الحزن العربي، الحزن والغضب الذي يمور في نفوس العرب وعبّر عنه الأدباء والشعراء أصدق تعبير، وبلغ الأمر مع الماغوط حدّ الفجيعة، فصرخ في شعره كالمفجوع، وأشهر غضبه كسيف جُرّد من غمده، وزاد من إصراره على الطفولة، لأنه لا يريد أن يكبر مع هذه الفاجعة، معلناً للكبار الذين حمّلهم جزءاً من المسؤولية، أنه يريد أن يعود إلى بلدته، أي إلى طفولته».
في الشعر
على الرغم مما تبدو عليه قصائد الماغوط من بساطة إلا أنها محمّلة بالمعاني والصور المدهشة، والإشارات إلى أحداث ومواقف، وبحسب المؤلف واجه هذا الشاعر العالم بتحدّ وشراسة أحياناً، وأعلن للعالم قدومه إلى الشعر من الأماكن القصيّة الحارة والباردة، كما وصفه المؤلف «كقروي أربكته زحمة المدينة… ومع الفاجعة القومية في فلسطين كبُر الطفل وشاخ قبل الأوان، وصارت كلماته الجارحة أو الحارقة كالجمر، وأصبح شعره الذي يمتزج فيه الذاتي بالموضوعي أو الخاص بالعام، أكثر تأثيراً في القرّاء، وكرّسته موهبته الصادقة والعفوية شاعراً كبيراً وصوتاً شعرياً لا يمكن لأحد أن يتغافل عنه أو أن يصرف النظر عن أهميته ومكانته في الشعر العربي الحديث، ووقف بجدارة إلى جانب بدر شاكر السياب، وخليل حاوي، ونزار قباني، وأدونيس وغيرهم من شعراء جيله، لا يستطيع أحد أن يدير وجهه لشعر الماغوط، لأن شعره قوي وشرس وتهكميّ ومؤثر، أن لشعر الماغوط أصابع فولاذية، وأظافر قوية، تنشب في وجه البلادة والتكرار والسفاهة والفساد… إنه صوت الشاعر الغاضب، المتمرد على واقعه الذي يريد أن يكون صوت الفقراء المحرومين الضائعين في المدينة، مثله مثل الشعراء الكبار في العالم».
كتب الماغوط إلى جانب الشعر، المسرحيات والزاوية الصحفية والسيناريو التلفزيوني والسينمائي، وكتب الرواية أيضا، فله رواية وحيدة وهي «الأرجوحة»، كتاباته كلّها تشبه شعره من حيث روح التهكم والمفارقة في تقريب المتباعدات والمتنافرات وتأكيد البديهيات ونقضها، وعلى الرغم مما يبدو عليها من تشاؤم إلا أنه يؤمن بالإنسان وبإرادة الحياة، ففي قصيدة قالها لصديقه بدر شاكر السياب:
«يا زميل الحرمان والتسكّع
حزني طويلٌ كشجر الحور
لأنني لست ممدّداً إلى جوارك
ولكنني قد أحلّ ضيفاً عليك
في أية لحظة
موشحاً بكفني الأبيض كالنساء المغربيّات…..».
وفي قصيدة المسافر يقول مخاطباً أباه:
«منذ مدة طويلة لم أر نجمةً تضيء
ولا يمامةً تصدح شقراء في الوادي
لم أعد أشرب الشاي قرب المعصرة
.. لم أعد أجلس القرفصاء
في الأزقة، حيث التسكّع…
فأرسل لي قرميدة حمراء من سطوحنا
وخصلة من شعر أمي…
التي تطبخ لك الحساء في ضوء القمر
حيث الصهيل الحزين
وأعراس الفجر في ليالي الحصاد
بِع أقراط أختي الصغيرة
وأرسل لي نقوداً يا أبي
لأشتري محبرة».
وفاته
في 3 نيسان عام 2006، وهو يوم لن يُنسى، ودّعته دمشق وودّعته معها الحياة الثقافية السورية والعربية، ففي هذا اليوم انتهت حياة الشاعر الماغوط بعد صراع طويل مع المرض، ودُفن في مسقط رأسه في السلمية.
شهادات بعد الرحيل
احتوى الكتاب على مجموعة من الشهادات لأصدقاء من الشعراء كانوا من جيل الشاعر الراحل ومنها نذكر على سبيل الذكر لا الحصر، قال الشاعر نزار قباني في الماغوط:
«أنت يا محمد أصدقنا، أصدق شعراء جيلنا. حلمي أن أكتب بالرؤى وبالنَفَس البريء البعيد النظر الذي كنت تكتب به في الخمسينيّات».
وقال غسان كنفاني:
«كلمات الماغوط شرسة، ومع ذلك فإنّها قادرة على تحقيق إيقاع عذب ومدهش وأحياناً مفاجئ، كأن يتحوّل صليل السلاسل إلى عزف منفرد أمام عينيك ذاتهما في لحظة واحدة».