حرمه وصحنه وأبوابه ومآذنه عمارة للشام خاصة .. الجامع الأموي.. مفخرة دمشقية عمرانية وقصة حضارة وثقافة
| منير كيال
تعد زيارة الجامع الأموي بدمشق غاية يصبو إليها زوار دمشق، وقبلة تهفو إليها نفوسهم، وتجيش بها مشاعرهم، على ما لدمشق من معالم وأوابد أثرية وتراثية تحتل مكان الأولوية لكل زائر ومقيم، فشهرة هذا الجامع ملأت الدنيا منذ أن شيده الوليد بن عبد الملك، الخليفة الأموي سنة 705 للميلاد يوم كانت الدولة الأموية لا تغيب عنها الشمس.
مسجد وكنيسة
جعل الوليد هذا الجامع آية معمارية سورية، بناء وبهاء، فكان أكثر مساجد الدنيا حسناً وجمالاً، حتى إن المرء لو عاش مئة وكان يتأمل بهذا الجامع، لرأى فيه بكل يوم ما لم يره من قبل من حسن الصنعة وبهاء التنسيق والتذويق، وقد قال العمري بالقرن الرابع عشر للميلاد مخاطباً أهل دمشق: «لا ينبغي أن يكون أشد شوقاً إلى الجنة من أهل دمشق، لما يرونه من حسن مسجدها».
بني الأموي على أرض كانت للعبادة منذ القدم، فعلى هذه الأرض كان معبد حدد الآرامي منذ آلاف السنين، وعليها كان معبد جُبتير الدمشقي أيام الرومان، وفي القرن الرابع للميلاد كانت مكانه كنيسة يوحنا المعمدان، فلما كان فتح مدينة دمشق سنة 635 للميلاد تقاسم المسلمون والنصارى أرض الكنيسة فكان الجانب الشرقي منها مسجداً وبقي الجانب الغربي كنيسة، وأصبح المسلمون والنصارى يؤدون صلاتهم على قرع النواقيس وأذان المؤذنين.
وفي سنة (86 هـ- 705 م) أراد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أن يكون بدمشق مسجد يتناسب مع عظمة الدولة الأموية في عصرها الذهبي، فضم القسم الذي كان كنيسة إلى المسجد وبنى على الجانبين المسجد الأموي الذي نحن بصدده بهذا البحث وقد استغرق هذا البناء عشر سنين، حشد فيها الوليد عدداً هائلاً من المعماريين والبنائين والنجارين.. وقد بلغت تكاليف البناء أكثر من أحد عشر ألف مليون دينار ذهبي من نقد تلك الأيام. فشاع بين الناس أن الوليد قد أنفق بيت مال المسلمين في غير محله. فلما بلغ الوليد ذلك قال قولته المشهورة: «يا أهل دمشق، إنكم تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون بهوائكم ومائكم وفاكهتكم وحماماتكم.. فأردت أن يكون مسجدكم هذا.. الخامسة».
ولابد أن ننوه بأن الوليد عندما أراد تجديد المسجد النبوي بالمدينة المنورة، طلب إلى عامله بالمدينة عمر بن عبد العزيز بناء هذا المسجد بما يحاكي مسجد دمشق.
وقد نزل البناؤون بأرضية البناء إلى قواعدها الأساسية وجعلوا تحت المسجد أقباء معقودة وعمداً منصوبة وعضائد أُحكم بناؤها وشُدت بالأساس معاقدها.
وفي جميع الأحوال يمكن أن نميز بالأموي بين حرم الجامع وصحنه (باحته) وأروقته فضلاً عن المآذن والأبواب.
هيكل عمراني
يمتد حرم الأموي من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال وهو من ثلاثة أجنحة عرضانية ينصفها جناح متوسط حاملاً قبة النسر، وقد قامت الأجنحة الثلاثة على صفين من الأقواس الموازية للجدار الجنوبي وهذه الأقواس محمولة على 54 عموداً لها تيجان كورنثية لم يبق منها إلا 40 عموداً بسبب ما تعرض له الجامع من زلازل وحرائق، وتلك الأقواس تحمل أقواساً أصغر منها بوساطة أعمدة أصغر.
في القسم الأوسط من هذا الحرم تقع قبة تتصل بالجدار الشمالي لحرم المسجد، هي قبة النسر، يبلغ قطر هذه القبة 16 متراً وارتفاعها 45 متراً، وهي محمولة على أربع دعائم، وعلى تلك الدعائم قناطر بعقود محكمة على المحراب الكبير للمسجد، كما أن لتلك القبة رقبة مثمنة بكل ضلع منها نافذتان بزجاج ملون، والقبة أيضاً مذهبة من الداخل وأركانها من الرخام.
أما محاريب إمام الصلاة بالأموي فأربعة، منها المحراب المالكي بالجانب الشرقي من حرم الأموي، وهو المحراب الذي كان قبل أن يبني الأموي الوليد بن عبد الملك، حيث كان موقع الأموي مناصفة بين النصارى والمسلمين، وهو المحراب المعروف بمحراب الصحابة، وعند بناء الوليد للمسجد كان لخطيب المسجد محراب هو المحراب الكبير، ثم محراب الحنابلة عند باب الزيادة للأموي، وهو الباب المفتوح على سوق الصاغة القديم.
أما المحراب الرابع فهو محراب الشافعية، وقد أنشئ بأمر تنكز نائب السلطنة المملوكية بدمشق.
ومن جهة أخرى، فقد كان لحرم الأموي ثلاث مقصورات، تعرف المقصورة الأولى باسم مقصورة الصحابة، وكان إلى الشرق منها خزانة الكتب التي بها مصحف الخليفة الراشدي عثمان بن عفان، وبالقرب منها باب كان الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان يدخل منه إلى الحرم، لأن قصره (الخضراء) خلف هذه المقصورة.
وبعد انضمام الجانب الذي كان كنيسة إلى الجانب الإسلامي من المسجد، أحدثت مقصورة مكان الحد الفاصل بين الجانبين، كما أنشئت مقصورة أخرى على الجانب الغربي منه هي مقصورة الحنفية.
إذا انتقلنا إلى صحن الجامع الأموي نجد فناء بطول 122.5 م، وعرض 48 م، تتوسطه بحرة للوضوء وقبة يطلق عليها اسم قبة الخزنة بالغرب يقابلها قبة زين العابدين بالشرق، ويتصل بهذا الصحن ثلاثة أروقة من الشرق والغرب والشمال.
كانت أرض هذا الصحن مفروشة بالفسيفساء الحجرية، وقد أتلف الحريق الذي شب بالأموي سنة 461 هـ هذه الفسيفساء، ثم بلطت ثم جدد البلاط سنة 633 هـ ما جعل مستوى أرض صحن الأموي أعلى مما كان عليه، وكان آخر بلاط لأرض صحن الأموي عام 1964 م، وكان البلاط من الحجر المزّاوي الصقيل.
وقد حدثني السيد أكرم الشوا الذي تعهد بلاط هذا الصحن، أنه لاحظ في أكثر من مكان بالصحن بقايا رصف الفسيفساء التي كانت لأرض صحن الأموي.
وبصحن الأموي ثلاث قباب، أكبرها قبة الخزنة بالجانب الغربي من الصحن وهي على ثمانية أعمدة لكل منها تاج كورنثي، ويذكر أن هذه القبة كانت مزخرفة وهي ترتفع إلى علو 9.95 م. وكان يحفظ بهذه القبة خزينة (أموال) الجامع وعدد من المصاحف.
والقبة الثانية هي قبة زين العابدين وهي شرقي صحن المسجد وكان يطلق عليها اسم قبة الساعات، لأن ساعات المسجد كانت تحفظ بها، وهي أيضاً على ثمانية أعمدة ذوات تيجان كورنثية، لكنها أصغر من قبة الخزنة، ويعود إنشاؤها إلى زمن الخليفة المهدي.
والقبة الثالثة كانت فوق قفص الماء الذي للوضوء وهي وسط صحن المسجد وكان هذا القفص يقوم على أربعة أعمدة رخام، وتحته شبكة مستديرة حولها يخرج منها الماء، فيشرب منه الناس ومنه يتوضؤون للصلاة.
الأروقة والأقواس
أما الأروقة التي بهذا الصحن فهي في الشرق والغرب والشمال من الصحن وهي محمولة على سبع وأربعين ركيزة منها ثلاث عشرة مربعة مكسوة بزخارف جصية، وما تبقى من هذه الركائز أعمدة أسطوانية، وعلى تلك الأعمدة والركائز أقواس نصف كروية فوقها أقواس أصغر منها تحملها أعمدة صغيرة، ترتكز إليها سقوف الأروقة.
ومن جهة أخرى فإن حرم المسجد الأموي ينفتح على صحن المسجد بـ22 قوساً على طول الجدار الجنوبي لصحن المسجد، ولكل من هذه الأقواس قواعد جصية مخرمة بأشكال وزخارف، خلفها زجاج ملون، فإذا سطعت عليها الشمس كان لها منظر خلاب يعرف بالمعشق، أما القسم الأوسط من هذا الجدار، الذي يشكل واجهة قبة النسر على صحن المسجد، فإنه ينفتح على الصحن بباب واجهته العليا مغطاة بالفسيفساء.
مآذن الأموي
وللمسجد الأموي ثلاث مآذن واحدة في جهته الشرقية من حرم المسجد والثانية في الجهة الغربية من الحرم، والثالثة في الجهة الشمالية من صحن المسجد وقد خضعت هذه المآذن لعمليات إصلاح وترميم بسبب ما أصاب المسجد من كوارث وحرائق وزلازل.
ويطلق على المئذنة التي بشمالي صحن المسجد اسم مئذنة العروس، وهي تمثل الأنموذج السوري لبناء المآذن، كما تعرف هذه المئذنة بمئذنة الكلاسة لإطلالها على حي يعرف بهذا الاسم بدمشق، وتعرف أيضاً باسم المئذنة البيضاء لأنها كانت مطلية باللون الأبيض، وقد جعلها الوليد حين بنائها مذهبة من أعلاها إلى أسفلها فعرفت باسم مئذنة العروس، وقد جرى على هذه المئذنة ترميم وتجديد أكثر من مرة.
ومن الجدير بالذكر أن أذان الجماعة لمواقيت الصلاة يقدم من هذه المئذنة وتقتدي به مآذن مدينة دمشق.
والمئذنة التي شرقي حرم المسجد هي مئذنة تقع على أحد أبراج معبد جوبتير الأمامية، وهي المعروفة باسم مئذنة سيدنا عيسى، للاعتقاد بأن السيد المسيح سيبعث في آخر الزمان وينزل على المئذنة البيضاء شرقي المسجد الأموي.
وقد يطلق على هذه المئذنة اسم مئذنة النوفرة أو مئذنة جيرون نسبة لحي النوفرة بدمشق المعروف بحي جيرون أما باب هذه المئذنة فهو من حرم المسجد الأموي، وبأسفل هذه المئذنة دورات مياه وأماكن وضوء واغتسال للمعتكفين والملتزمين بالمسجد. وقد تعرضت هذه المئذنة كغيرها من مآذن الأموي، لكثير من التهديم والزلازل التي ضربت دمشق، ما أدى إلى تصدع المئذنة وسقوطها، فضلاً عما أصابها من الزلازل التي تعرضت لها دمشق، كما تعرضت لكثير من الحرائق، ومن الملاحظ أن هذه المئذنة مربعة الشكل بأسفلها ثم تستدير كغيرها من مآذن الأموي.
والمئذنة الغربية هي المئذنة الثالثة للأموي، وهي فوق قواعد البرج الأمامي لبرج جوبتير الدمشقي، كما أنها تعرف بمئذنة المسكية لإطلالها على هذه السوق، وكانت تحتوي على زوايا يسكنها الغرباء، وكان في أعلاها معتكف الغزالي، كما تعرف بمئذنة قايتباي، نسبة إلى السلطان قايتباي المملوكي الذي رممها بعد الحريق الذي أصابها سنة 893 هـ.
ومن الكوارث التي حلت بها الحريق الذي أضرمه تيمورلنك بدمشق سنة 803 هـ، وإذا انتقلنا إلى مشاهد وزوايا الجامع الأموي وملحقاته، نلحظ أن بأروقة صحن الأموي عدداً من هذه المشاهد والزوايا والغرف الملحقة بالأموي، وهي على أسماء الخلفاء الراشدين وهكذا نجد أن: على يمين الخارج من باب جيرون (الباب الشرقي للمسجد) مشهد أبي بكر رضي الله عنه يقابله بطرف اليسار من ذلك الباب مشهد الإمام علي كرّم الله وجهه، ونجد بجوار زاوية الرواق الشمالي مقصورة الحلبية ثم مدرسة الكلاسة، وشمالها المدرسة الأشرفية ثم المدرسة العزيزية. ونجد في الجهة الشمالية الغربية مشهد عثمان رضي الله عنه وكان يصلي به نائب السلطنة المملوكي، وكانت تعقد بهذا المشهد مجالس للفصل بالقضايا المعضلة التي لا يُنفرد بها، وقد جدد هذا المشهد ليكون قاعة للاستقبال، ويلي هذا المشهد غرفة تتخذ مستودعاً للزيت الذي يرافق موكب الحج الشامي إلى الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
أبواب الأموي
أما أبواب الجامع الأموي فهي أربعة أبواب، باب شرقي يعرف باسم باب جيرون، وباب بالغرب هو باب البريد وآخر بجهة الجنوب باب الزيادة وباب بجهة الشمال هو باب الكلاسة.
فالباب الجنوبي الحالي غير الباب الجنوبي الذي كان قبل بناء الجامع الأموي، وكان يدخله معاوية بن أبي سفيان يوم كان مكان الأموي كنيسة يحتل المسجد الجانب الشرقي منها، ذلك أن هذا الباب يؤدي إلى المقصورة التي خلف المحراب.
فلما بنى الوليد المسجد صار الخلفاء يدخلون إلى المسجد من الباب الأيسر الذي إلى يسار المحراب الكبير الحالي، ثم ألغي هذا الباب الجنوبي وأحدث باب جنوبي آخر وهو المعروف باسم باب الزيادة، وقد عرف باب الزيادة هذا باسم باب القوافين، لوجود هذا السوق بالقرب من الباب.
ويطلق على الباب الشرقي للأموي اسم باب جيرون وهو الاسم الذي كان يطلق على باب جيرون الدمشقي الشرقي، وقد عرف باسم باب اللبّادين كما عرف باسم باب النوفرة. وهو من ثلاثة أبواب مصفحة بالنحاس، وإلى يسار الخارج منه مشهد به رأس الحسين بن علي رضي الله عنه وقد انتظم خارج هذا الباب درج ينحدر إلى ما يعرف بالنوفرة.
وباب آخر للجامع بجهة الغرب، ويطلق عليه اسم باب البريد، ويطلق عليه أيضاً اسم باب المسكية لوقوع سوق المسكية عنده، ولعل هذه التسمية للباب تعود إلى باعة عطر المسك الذين كانوا بهذه السوق، وكان لهذا الباب دهليز به حوانيت للشماعين والفواكه وعلى يمين الخارج منه مدرسة للشافعية، وبأعلاه أعمدة جوبتير، وفي جميع الأحوال فإن هذا الباب للجامع الأموي هو باب كبير له فرعان فرع عن يمين الباب وآخر عن يساره وهذه الأبواب مصفحة بالنحاس الأصفر المذهب، وقد جدد هذا الباب في عهد صلاح الدين الأيوبي، كما جدد في عهد الملك الظاهر.
وأخيراً فإن باب الناطفيين هو الباب الرابع للجامع الأموي وهو في جهة الشمال من صحن الجامع، وتطلق تسميات أخرى نذكر منها: باب الفراديس لوقوع محلة الفراديس بالقرب منه، وباب السلسلة لقرب دار السلسلة منه، ولهذه السلسلة قصة طريفة.
وهي أن المتغابنين يستحلفون غرماءهم على تلك السلسلة، فإذا كان أحدهم صادقاً بقَسَمه تبقى السلسلة على حالها وإن كان على غير ذلك ترتفع تلك السلسلة، وصدف أن قدم إلى دار السلسلة شخصان لأحدهما دين أو ذمة على الآخر، فلما قدم المستدين للقسم نادى صاحب عكاز كان قد حفر بها مكاناً جعل به ما لصاحبه من دين، وأقسم أنه أعطى صاحبه ما عليه من دين يداً بيد.. فارتفعت السلسلة ولم تعد تنزل!
ومن أسماء هذا الباب للجامع الأموي: باب العمارة وباب الكلاسة لقرب هاتين المحلتين من الباب.
وكان لهذا الباب دهليز ومصاطب يتخذها معلمو الصغار مكاناً للتعليم وكان عن يمين الخارج من الباب: خانقاة الشميصانية، كما أن بالقرب منه المدرسة العزيزية، المدفون بها الدكتور عبد الرحمن الشهبندر أحد رجالات دمشق الوطنيين، فضلاً عن ذلك فإن هذا الباب يوصل إلى مدرسة الكلاسة التي أنشأها نور الدين الشهيد وجددها بعد احتراقها.
وأخيراً نشير إلى وجود دورات مياه عدة بكل جهة من جهات المسجد ويتوافر لهذه الدورات المياه الكافية، وهذه الدورات ما كان منها إلى يسار الخارج من باب البريد للمسجد ومنها على يمين الخارج من باب الزيادة، وأخرى عند الخارج من باب الناطفيين إلى جهة الشمال من صحن الأموي، وآخرها وهي الأكبر بأسفل درج باب جيرون والمعروفة باسم الجيرونية.