قضايا وآراء

قامات السنديان في جبل العرب لا تنحني

عبد المنعم علي عيسى : 

 

عشية دخول الجنرال غورو إلى دمشق بعد معركة ميسلون 24 تموز 1920 أرسل مبعوثاً شخصياً إلى سلطان باشا الأطرش (كما للعديد من زعماء المناطق السورية) التقاه في دارته بـ«القريا» في العام 1921، أثناء ذلك لم يكن قد لجأ إليه الثائر أدهم خنجر (لبناني من جبل عامل) عندما قام هذا الأخير بمحاولة- لم يكتب لها النجاح- لاغتيال غورو في ريف القنيطرة 22/6/1921 ولم يكن قد اقتحم الفرنسيون عرينه إثر ذلك اللجوء والذي رد عليه الزعيم بإطلاق العمليات الأولى من الثورة السورية 7/7/1922.
عرض المبعوث الفرنسي على سلطان باشا قيام دويلة درزية في جبل العرب، ولم يطل التفكير بالزعيم قبل أن ينظر إليه ويقول له بالعربية العامية التي كان من الصعب على المترجم نقل روحيتها تماماً فاكتفى بنقل الرفض، قال الزعيم الأطرش «نيال اللي ما عندو شرف» وهي تعني أن العرض يرقى لأن يكون أكبر من الجائزة الكبرى التي يطمح إليها الكثيرون، إلا أن حدس المبعوث الفرنسي (وحدس مرسله أيضاً) قد خاب في اختيار النوعية، لم يكن لسلطان باشا وهو سليل أسرة عربية عريقة أن يقول غير ما قاله، هو الوارث لذلك الإرث الثقيل الذي تركه له أبوه ذوقان بن مصطفى إسماعيل مؤسس المشيخة الطرشانية 1869 والذي أعدمه الأتراك في العام 1911 بتهمة مقاومته لهم.
عندما انطلق هجوم جبهة النصرة على مدينة السويداء أوائل حزيران الجاري كان الأمر في إطاره العام محاولة لتعميم نموذج الشمال (إدلب وريفها) على الجنوب السوري (درعا والسويداء) وفي الإطار الخاص فإن السويداء تمثل إحدى أجنحة دمشق التي تتحسس بها الأخيرة فضاءاتها التي يجب ألا تضيق أبداً، كما أن إسقاطها سيكون أمراً كفيلاً بإخراج إحدى «الأقليات» المكونة للمجتمع السوري من المعركة حيث لا يزال العديد ممن يديرون «موك» يرون أن النظام في دمشق قائم وبدرجة كبيرة على دعم الأقليات له بشكل أساسي، وهي رؤيا قاصرة بالتأكيد ولا تصمد أمام الوقائع أو مجريات الأحداث.
كان الرهان على أن سقوط السويداء سيكون سريعاً، ليس قياساً إلى التوازنات العسكرية القائمة، إنما على قراءة سياسية ترى أن المؤثر الخارجي الجنبلاطي قد أخذ من وقته ما يكفي لأن يكون قد فعل فعله، وعلى الرغم من أن مشيخة العقل كانت قد قررت إبعاد الشيخ وحيد بلعوس الذي كان يردد آهات وليد بيك 4 شباط 2015 ما يشير إلى أن توازن الشارع لم يكن لمصلحة ذلك التيار، إلا أن الرهان كان على أن «النخر» الجنبلاطي عميق وليس له- بالضرورة- أن يكون ظاهراً على السطح.
عمل جنبلاط منذ وقت ليس بالقصير على إسقاط دمشق ولم يكن ذلك سراً بل علانية ولم نكن بحاجة إلى ويكيليكس السعودية لكي ندرك ذلك، وإن كانت هذه الأخيرة قد رسمت الحجم «القزم» الذي كان يلعبه في ذلك المخطط، فقد أظهرت الوثائق جنبلاط أشبه ببيدق سعودي يعلي الصوت بالمقدار المطلوب منه، ومن ثم يخفضه بمقدار ما تبتعد عن أنفه رائحة براميل النفط التي ظهر أنه يفضلها على روائح العطور الباريسية التي يبتاعها له أصدقاؤه السعوديون.
لم يكن تصريح وليد جنبلاط في 14 تشرين الأول 2014 الذي أعلن فيه أنه لا يعتبر جبهة النصرة تنظيماً إرهابياً مفاجئاً (ولا كان كذلك تصريحه ما بعد مجزرة قلب لوزه الذي قال عنه إنه حادث فردي) ففي غداء عمل جمع وزيره وائل أبو فاعور مع قيادات أمنية لبنانية منتصف كانون الأول 2014 قال الأخير لهم: «إن معلوماتنا هي أن جبهة النصرة ستكون مسيطرة على الجنوب السوري بالكامل نهاية العام القادم (أي العام 2015) وهي ستصبح جارة «لنا».
إذاً، الرؤيا الاستراتيجية لجنبلاط تقوم ظاهرياً على محاباة جبهة النصرة لأن من شأن ذلك أن يكون عامل حماية لدم الموحدين المسلمين، في حين أنها في العمق ترى أن الانهيارات من هذا النوع أمر مفيد وقد يفضي لاحقاً إلى تسويات سياسية تعمل كل من واشنطن وتل أبيب عليها لكي تتمخض الحرب الدائرة عن كيانات طائفية وهذا الموقف (محاباة النصرة) هو بحسب الرؤيا الجنبلاطية أفضل الممكن للوصول إلى الحلم القديم المتجدد ما دام الوصول إليه بالقوة العسكرية أمراً متعذراً حالياً لانتفاء وجود هذه الأخيرة في الوقت الحاضر.
لنبق في الجانب المعلن من تلك الرؤيا، فتحت شعار حماية دم الموحدين قام جنبلاط في 2 آذار 2015 بإبرام اتفاق مع جبهة النصرة بوساطة قيل إنها كانت لأحد أعضاء الائتلاف السوري المعارض مقيم في الإمارات، وعلى الرغم من أن القرى التي يقطنها الموحدون المسلمون الـ14 في ريف إدلب قد قامت بما هو مطلوب منها إلا أن ذلك لم يمنع «التونسي» الذي قاد الهجوم على تلك القرى من الإعلان عن عزمه على متابعة طريقه الأمر الذي أدى إلى مجزرة قلب لوزه 11/6/2015 (في تلك اللحظات كانت قناة الجزيرة القطرية تعرض لقاء لأبي محمد الجولاني تكشف فيه عن اسمه الحقيقي وإن كان من دون إظهار لصورته).
الغريب في الأمر أنه لم يزل هناك من يراهن على إبرام توافقات سياسية مع منظمات تنضوي تحت إطار الفكر الجهادي التكفيري على الرغم من أن جميع التجارب (وأهمها التجارب الأميركية) تقول إن تلك الرهانات تنضوي على رؤيا سياسية قاصرة، وجهل في المنهجية المعتمدة داخل تلك التنظيمات في تعاملها مع المحيط.
إن لتلك التنظيمات أجندة خاصة بها، لها الأولوية في تحديد مسارها، صحيح أنها تدار من مموليها إلا أن القرار النهائي يأتي في الغالب خاضعاً لتوجهات خاصة بها، ثم إن عملية اتخاذ القرار في تلك التنظيمات لا تأتي عبر هيكلية تراتبية بمعنى أنها لا تصدر عن رأس الهرم لتهبط تراتبياً إلى الأسفل وصولاً إلى المقاتلين في الميدان، والكثير من التجارب تدعم هذه الرؤيا الأخيرة، فقبيل مجزرة قلب لوزة (كما تقول مواقع معارضة) بوقت قصير دعا أحد المقاتلين التونسي للانتظار ريثما يأتي قرار الجولاني فأجابه التونسي على الفور وهل تطبيق «الشرع» بحاجة إلى إذن من الجولاني؟!
إن الذات الجماعية للجماعات أو للشعوب هي دائماً أذكى بكثير من مفكريها أو منظريها وهي تتحسس المخاطر التي تهدد وجودها ربما بالحاسة العاشرة، ولا يمكن لها أن تنخدع عبر بعض السلوكيات التي قد يسلكها الخصم، الأمر الذي جسدته معركة مطار الثعلة (13 + 14 حزيران 2015) خير تجسيد، كانت تلك المعركة حالة مجتمعية وطنية صلبة سرعان ما أعطت نتائجها على الأرض فجاءت تداعياتها متناقضة تماماً للأهداف التي قامت لأجلها العملية برمتها.
شكلت المواقف الوطنية والقومية التي اتخذها الزعماء الوطنيون في لحظات مفصلية من تاريخ البلاد مخزوناً قومياً ووطنياً ثراً تراكم في الجعبة السورية حتى استطاع أن يضرب حولها إطاراً حامياً لنسيجها المجتمعي بوجه النعرات العرقية والمذهبية على الرغم من سعار مروجيها وأكياس نقودهم التي لا تنفد.
عانت الخطة الموضوعة للهجوم على السويداء من خطأ إستراتيجي قاتل، فقد كان الرهان على أن عملية الانزياح السياسي ستكون من جبل العرب باتجاه «المختارة» الأمر الذي تكشف خطؤه سريعاً، إن الانزياحات الشعبية الكبرى التي توجهها عادة الذات الجماعية ببصيرتها النافذة وبحساباتها التي لا يدركها الخطأ، تكون عادة باتجاه الزعامات التي تتمتع بالحكمة بعيداً عن التصريحات الفارغة وعن الادعاءات التي لا رصيد لها على الأرض، فقد نشأت زعامة المختارة في زمن أفرزتها التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية الإقطاعية وتاريخها هو تاريخ «آغاوات» ممن يتسمون بالمغامرة لتوسيع إقطاعاتهم الأميرية، والتاريخ يقول إن بشير جنبلاط (1775- 1825) كان يمتهن تسعير الحروب الطائفية مع جيرانه حتى إنه أسر في إحدى المعارك وأعدم في العام 1825م، وأن فؤاد جنبلاط (1885- 1921) والد كمال جنبلاط قامت زعامته على محاباة الفرنسيين لينقلب على نسيب جنبلاط حليف العثمانيين الذي كان حاكماً على الشوف عام 1921.
استمر ذلك النفس المغامر بشكل أوضح في زعامة كمال جنبلاط «1917-1977» بل بمزيد من التهور، ففي كتاب بعنوان: «من نافذة السفارة العرب في ضوء الوثائق البريطانية» يورد المؤلف نجدة فتحي صفوة وثيقة بريطانية مؤرخة في 24 شباط 1954 تقول: إن الزعيم كمال جنبلاط زار السفارة البريطانية في بيروت وقابل المستر سكوت السكرتير الأول فيها وقال له: إن الحكم في سورية يتهاوى ولا يلزم لإسقاطه أكثر من 15 ألف مقاتل يقطعون دمشق من محيطها، وأنه يفكر بالقيام بذلك، كان تعليق المستر سكوت على الوثيقة وبخط يده، إن جنبلاط يبدو عديم الإحساس بالمسؤولية، الأمر الذي أعاد تكراره ما بعد 13 نيسان 1975 دافعاً بلبنان إلى مخاطر التمزق والتدخل الخارجي الإسرائيلي.
في المقابل كانت الزعامة الطرشانية في «القريا» تراكم جيلاً بعد جيل تاريخاً يزخر بمقاومة الغزاة العثمانيين ومن بعدهم الفرنسيين، كان سلطان باشا أول من لبى نداء الثورة على العثمانيين ليدخل دمشق- على رأس قوة قادها- من حي الميدان 29-30 أيلول 1918 رافعاً العلم العربي على دار الحكومة فيها في 2 تشرين الأول 1918 ليكون بذلك أول علم عربي يرفرف في سماء عربية بعد 4 قرون من الاحتلال، كان ذلك العلم منسوجاً من قبل أهل بيته وكان «سلطان باشا» يخبئه في جيبه حتى تحين لحظة إعلائه، وكذلك كان سلطان باشا سباقاً إلى نجدة يوسف العظمة إلا أن التفوق العسكري الفرنسي كان قد حسم المعركة قبيل وصوله إلى ميسلون.
السؤال الآن الذي نطمح لأن نكون قد قدمنا الإجابة عنه مسبقاً هو: كيف سيكون حال وليد بيك جنبلاط فيما لو تلقى عرضاً كذاك الذي تلقاه سلطان باشا الأطرش؟ ألن يكون منضوياً تحت توصيف «نيال» الذي أطلقه الزعيم الوطني الخالد؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن