قضايا وآراء

فرصة لمحور المقاومة

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي

اعتبر موقع جلوبال ريسرش الكندي أن إقالة «مايكل فلين» مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشؤون الأمن القومي من منصبه يعتبر ضربة مؤثرة للإدارة الأميركية الجديدة نجحت في توجيهها مراكز قوى داخل الدولة الأميركية، هي الأجهزة واللوبيات ذاتها التي سبق لها تقديم الدعم لهيلاري كلينتون خلال حملتها الانتخابية، إذ تجاوب ترامب وقرر إقالة الشخص الذي يعتبر المنظر الحقيقي لكل ما نطق به خلال حملته الانتخابية من أفكار حول السياسة الخارجية، وذلك إثر تسريب، يتعلق باتصال جرى بين فلين والسفير الروسي في واشنطن، ورغم أن الاتصال مع السفراء الأجانب هو فعل يقع في صلب مهام فلين الوظيفية، ورغم أن فلين حاول أن يوضح أن الاتصال كان بهدف مناقشة العقوبات الأميركية على روسيا، إلا أن الحملة الإعلامية التي شنها التيار المناهض لترامب والمسيطر على معظم وسائل الإعلام الأميركية أدت في النهاية إلى إجبار ترامب على إقالة الرجل الأهم في إدارته من ناحية الخبرة السياسية والإستراتيجية والأمنية.
تأتي الحملة التي شنتها وسائل الإعلام الأميركية بشأن فلين ضمن سياق الحرب الإعلامية غير المسبوقة في تاريخ الرؤساء الأميركيين، والمستمرة بلا هوادة، والهادفة للتشكيك بأهلية ترامب لقيادة البلاد، ورغم التكتل القوي الذي يواجه الرئيس الأميركي الجديد داخل الدولة الأميركية العميقة، والمشكل أساساً من تحالف واسع يضم امبراطوريات الإعلام الأميركية وأجهزة استخبارية على رأسها الـCIA، إلا أنه من الصعب التصديق أن الرجل وصل إلى سدة الرئاسة في دولة كالولايات المتحدة تستلزم الحملات الانتخابية الرئاسية فيها إنفاق أمول باهظة، من دون دعم أجهزة أخرى ولوبيات من داخل النظام الأميركي المعقد يمثل كل منها مصالح اقتصادية مختلفة داخل المجتمع الأميركي، فترامب مثل الحجة الأميركية للانكفاء، والتراجع عن خطط إعادة هندسة العالم وعن سياسة تغيير الأنظمة، التي كلفت الميرانية الأميركية مئات الميارات سنويا كنفقات على الحروب وعلى القواعد العسكرية وعلى تشغيل حاملات الطائرات المنتشرة حول العالم، أنه تعبير عن وصول نظام العولمة الذي قادته الولايات المتحدة بالشراكة مع تابعها الاتحاد الأوروبي إلى طريق مسدود، بعد أن أضحت تكاليفه حملاً يثقل كاهل دافع الضرائب الأميركي من دون أن تتبدى حسناته الاقتصادية إلا بالنسبة لقطاع شركات التصنيع العسكري، على حين انهارت صناعات مدنية أميركية وسرح عاملون ودخل الاقتصاد الأميركي في أكبر مأزق ديون في التاريخ.
لذلك من الخطأ تصوير الصراع الحالي داخل أروقة الحكم في واشنطن على أنه مواجهة بين شخص ترامب وبين مؤسسات الدولة الأميركية بأكملها، فصراع مراكز القوى والتيارات داخل مؤسسة الحكم الأميركية سابق أصلا على وصول ترامب إلى البيت الأبيض، إذ بدت علائمه للعيان بوضوح عندما تراجعت واشنطن عن الاتفاق الذي أبرمته مع موسكو بشأن المواجهة في سورية، ويمكننا بناء عليه أن نستنتج بسهولة أن شخصية ترامب تم اختيارها بعناية من قوى داخل النظام الأميركي، لتعبر عن مصالحها وتوجهاتها التغييرية المنسحبة من سياسات العولمة، بما يناسب هوى فئات شعبية واسعة في المجتمع الأميركي.
فبسبب الطبيعة الاستعلائية للمجتمع الأميركي، تجد النخبة السياسية الحاكمة نفسها أمام ضرورة استخدام لهجة التشدد والقوة ليس في حالة الهجوم فقط بل حتى لتغطية النكوص والتراجع، لذلك يحاول ترامب تغطية انسحابه من الإستراتيجيات الهادفة لإحكام القبضة الأميركية على العالم والتي بدأت منذ عقدين على الأقل واصطلح على تسميتها بنظام العولمة، وذلك عبر جملة من السياسات المتشددة، منها إظهار الحزم الكلامي تجاه إيران، في ظل استمرار العجز الأميركي عن شن حرب مباشرة ضدها، وأيضاً عبر المزيد من الدعم المعنوي لإسرائيل، إلى جانب الدعم المادي المطلق الذي تحصل عليه سلفا، فالمطلوب شراكة مع روسيا في مواجهة الجماعات الإرهابية شرط ألا يؤدي ذلك إلى تقوية إيران ومحور المقاومة وتهديد أمن إسرائيل، لكن ما سبق لن يعني بالطبع أن الولايات المتحدة ستقدم على خوض حروب جديدة من أجل إسرائيل، فحملة ترامب الانتخابية نفسها بنيت على أساس عدم جدوى الحروب والتدخلات العسكرية التي استنزفت الاقتصاد الأميركي.
إن تخليص إسرائيل مما تبقى من عملية السلام، والنكوص عن الالتزام الأميركي بمبدأ الدولتين هو جل ما يستطيع ترامب تقديمه لإسرائيل حتى يحظى بدعم اللوبي الصهيوني في مواجهته مع التيار المعادي له داخل أروقة الحكم في واشنطن، وهي خطوة وإن كانت تناسب هوى التطرف الصهيوني، فهي على الأمد البعيد ترفع غطاء الشرعية عن نخب حاكمة عربية وتابعة لها فلسطينية عملت على تحييد طيف واسع من قوى المجتمع الفلسطيني بحجة انتظار غودو (ثمار عملية السلام والحل القادم)، وذلك ضمن خطة نقل المعركة إلى داخل البلدان العربية التي أريد لها أن تقسم وتغرق في الصراعات الطائفية والاثنية في حين تنعم إسرائيل بالأمان.
لقد التقطت إيران اللحظة التاريخية المتمثلة في سقوط القناع المسمى مفاوضات السلام عن وجه التطرف الأميركي الصهيوني، فأعلنت عن تنظيم مؤتمر لدعم الانتفاضة الفلسطينية في طهران الذي انعقد مؤخراً بمشاركة القوى المقاومة الفلسطينية، وستكون لمقرراته الواضحة آثار أكبر من مجرد الخطب، وذلك في وقت تعيش فيه كل من تركيا والسعودية وقطر حالة من الحيرة وتزعزع الثقة، فرضها عليها صراع التيارات داخل دوائر صنع القرار الأميركي، والذي أنتج عدم وضوح سياسات الإدارة الأميركية بشأن الملف السوري، إذ عملت تلك الدول لسنوات عديدة تحت إدارة السيد الأميركي كأدوات في الحرب التي تشن على سورية قلب محور المقاومة، عبر دعم الجماعات الإرهابية فيها، وكانت تنتظر بفارغ الصبر ضربة عسكرية أميركية تستكمل ما بدأته المجاميع الإرهابية، لكنها فوجئت بتراجع أميركي في اللحظة الحاسمة، وبدخول روسي إلى جانب الدولة الوطنية السورية، وباختفاء شعارات إسقاط النظام تدريجيا، ليحل محلها اتفاق دولي على محاربة الإرهاب في سورية، وقبول أميركي بتصنيف جبهة النصرة ومن يقاتل معها كتنظيمات إرهابية إلى جانب داعش، كما فوجئت بتصريحات ترامب المحابية لروسيا والمنتقدة لسياسات إدراة أوباما في سورية خلال حملته الانتخابية، لكنها اليوم تبدو مرتاحة لخطابه الداعم لإسرائيل والمتشدد تجاه إيران وحزب الله، متناسية أن هذا الخطاب سيسهم في تعريتها أكثر فأكثر وفي نزع شرعية سياساتها الطائفية الفتنوية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن