ثقافة وفن

غياب الثقافة ودورها

| إسماعيل مروة 

مهما حاولنا أن ندفع عن أنفسنا وندافع، فعلينا أن نعترف بأننا نعيش في عمق تلافيف أدمغتنا معضلة ثقافية، فنحن ومهما ادعينا شعب غير مثقف، ونحن لا نقرأ، ونحن لم نرقَ بعد إلى مصاف قرّاء العناوين، وهي الدرجة الدنيا من القراءة، والتي نشتمها مع أننا لم نصل إليها، في كل مفصل من مفاصلنا تغيب الثقافة، ويغيب أثرها، ويضمحل تأثيرها، من أعلى اهتمامات الحياة الجمعية إلى أدنى سلم الاهتمامات الفردية! وكلما قلت هذا أو ما يشبهه يأتي من يقول لي علناً أو سراً: لماذا نجلد أنفسنا؟ والجواب ببساطة لأننا نستحق الجلد، ربما إذا شعرنا بالألم من الجلد أن نتحرك… منذ أيام استمعت إلى أحد الذين يحاورون دورياً في إذاعة سورية، وكان كلامه عن غياب الثقافة والمثقفين صادقاً، إلا أنه كان صادماً للغاية عندما وجد بالقرائن أنه المثقف الوحيد في سورية، ومن باب التبعية أضاف إلى المثقفين عدداً من الذين يعملون تحت إمرته في برامجه! وهؤلاء أسبغ عليهم صفة الثقافة لأنهم يعملون معه فقط، وأظن أنه لو ترك أحدهم المشروع معه فستنزع عنه صفة الثقافة! نعم شعب غير مثقف، لم نقرأ التاريخ، وإنما نجتره ونعيشه بسلبياته فقط، لا نرى الإيجابيات، ولا نقدر على حكم علمي غير خاضع للهوى والمزاج، نكره من دون دليل، نحب من دون دليل، وإن أردنا أن نشرح لمن نحب الأدلة رفضها وأسكتنا، وبعد ساعات قد يجادل في الأدلة، فلمَ لمْ يسمع الأدلة وينهِ جدلاً قد يطول..؟!
أردنا المجتمع المدني وخططنا له، ولكننا كنا نعيش إثنياتنا القومية والطائفية والمذهبية، وعندما حانت الحقيقة كان المجتمع المدني قشرة، وكان السماح تمثيلاً، والحب كذبة كبرى، وحياتنا صارت مسرحاً متهالكاً انهار على ممثليه، لنكتشف أننا اخترعنا الإثنيات ولم تأتنا، فنحن من حمل قميص عثمان، ونحن في الجمل وصفين، ونحن من أساء معاملة موسى بن نصير وطارق بن زياد، وجاري من قيد حجر بن عدي، وأنا من قتله، وأنا من خذل الحسين، ومن خطط وسمم واغتصب!!
هل يعقل أن يحدث هذا بعد نصف قرن من الأحزاب غير المتدينة؟ وأبتعد عن تعبير العلمانية لأن استخدامه صار ممجوجاً ومكروهاً، أصف معاوية بفصل الدين عن الدولة ولي معه حساب، أو أرفعه إلى مصاف الأولياء والصالحين! أشيد بمناقبية عمر بن عبد العزيز، وأردها في الوقت نفسه إلى رغبته بتبييض صفحة الأمويين، وأنهي بالحديث على أنه قتل على أيدي الأمويين الذين اغتالوه في دير سمعان لمصالحهم الشخصية الضيقة!
لو لم نكن نعاني أزمة ثقافة فهل ما وصل إلينا بقي هكذا؟ نعم نعيش أزمة ثقافة، ولا يُستثنى منها صديقنا الذي وجد نفسه المثقف الوحيد، وأول أسباب الأزمة ذاك الذي يصر على أن يوضع قبل اسمه لقب المفكر أو الفيلسوف، وقد شهدت مرة أحدهم في التلفزيون، وهو يطلب منهم صفة الفيلسوف، ووضعت له، وكل من يعرفه يعرف أنه كان أستاذاً من درجة متخلفة، ولم يترك أثراً في طلابه بالجامعة ليستحق لقب الأستاذ ناهيك عن المفكر والفيلسوف، وهذا الشخص نفسه استضيف في محطة عربية، وحتى يهاجم سورية وضعوا له لقب الفيلسوف، وأظنه طلبه، هو درس الفلسفة ودرسها، وكان عليه أن يعلم أن العرب في تاريخهم الطويل لم يخرجوا فيلسوفاً على الإطلاق، وما من أحد استحق هذا اللقب لأن أهم شروطه أن يخرج أحدهم برؤية متكاملة تحمل صفة النظرية الفلسفية التي لم تسبق، وإن سبق إلى بعضها، فإنه عمل على صنع أشياء جديدة وإضافات، ومجتمعاتنا لم تستطع أن تخرج فيلسوفاً، لأن الفلسفة إبداع، وشرط الإبداع الأول الحرية، وفي مجتمعاتنا الخاضعة للرؤى العقيدية من إبراهيم إلى محمد عليهم السلام لا يستطيع امرؤ غير حر أن ينتج نظرية فلسفية! فما عجزت عنه القرون كيف أباحه لنفسه؟! والنظرة إلى الفلسفة في القرن الحادي والعشرين فيها الكثير من الجدل، فما تزال مجتمعاتنا ترى الفلسفة كفراً وهرطقة، وغاية دارس الفلسفة أن يصبح مدرساً، لا أن يصبح فيلسوفاً أو عالماً بالإنسان والأديان، ومناقشاً لها!
نعم إن مجتمعاتنا تعاني مشكلات لا حصر لها، وسببها غياب الثقافة، والذي يتحمل المسؤولية الأولى الدول والسلطات التي تعاملت مع الثقافة على أنها مكملات ومتممات لا على أنها أساسيات! وإلى اليوم لم يشعر العرب خطورة غياب الثقافة والمثقفين، لذلك نجد هذا الرجل الذي لا يقرأ غير إبداعاته، ويكرر ذاته، ويسطو على أفكار غيره وخاصة من غير العرب، ويباهي بسفراته إلى الغرب ينكر الثقافة عن الجميع إلا عن نفسه، ولذلك نرى هذا الانتهازي الوصولي الذي أمضى عمره على المكاسب فشراب من هنا وطعام من هناك وبيت من جهة ما يصف نفسه بالمفكر والفيلسوف ويتشدق بما يملك ويظهر الزبد من حواف شفتيه، فهو فيلسوف وشاعر وروائي وكاتب مقالة ومدرس وأستاذ بكرسي، يحق له أن يطلق من رأسه ما تبقى من شعر ليرسله على كتفيه ويحمل صفة الفيلسوف!
علينا أن نعترف بأزمة الثقافة في مجتمعاتنا، والدليل على ذلك أن الذين خرجوا من هذه المجتمعات اعترفوا وإن بنسب متفاوتة، وملكوا ولو بدرجات صفة المثقف، فها هو جورج طرابيشي الراحل الذي لم يصف نفسه يوماً إلا بالمترجم والباحث، أخذ مواقف، وأسهم في ثقافة، وترجم كتباً وصنف كتباً، وقبل رحيله بأيام يقف ليعترف بأخطاء مرت في حياته، أذكر سبعة منها وقفت معها سابقاً، يعترف بأنه أخطأ في القراءة، وبأنه يتراجع عن رأيه الذي قاله، ولكن الذين كنا نظنهم مثقفين ونجلهم ونغامر لحضورهم وقراءتهم عندما أعيد تصديرهم إلينا ليتزعموا حركات ديمقراطية مزعومة، عادوا إلى البادية والصحراء، وأغدق عليهم الخلفاء فصار كلامهم بلا طعم ولا رائحة، وغابت الملامح من وجوههم، بعضهم اكتشف ما فعل فاختفى، وإن لم يعترف، وبعضهم ما يزال يرغب بأعطيات أمراء المؤمنين وبالأموال والأكياس والأكداس..!
ألسنا في أزمة ثقافة؟ أليس كل ما يجري على أرضنا اليوم من قتل وتدمير سببه الثقافة؟ حتى من ولّوه أمرنا وأمر ثقافتنا، وتركوا له الأبواب على مصاريعها ليفعل ما يريد زعماً منهم بأن هذا القطاع غير مهم وغير مؤثر، فعل أفاعيله، واليوم يجيّش ضد الثقافة والمثقفين! وفق علائم أزمتنا الثقافية المرة اليوم أنه يوجد من يقول: إنه شجاع استطاع أن يغيّر، وكأن تغيير الموضوعات بعد الستين يعطي الصفح! بل الأخطر أن من كان يتمسح به عندما كان ولي نعمته، بدأ يتحدث، ويقول: إن هذا الجانب المتمظهر في ثقافتنا بالتشدد هو من زرعه في ثقافتنا! لمَ لمْ يجد من يجابهه؟ وما دمنا عرفنا لماذا لم نقم بما يجب تجاه ثقافتنا؟ وهذا الأمر سيتكرر مع وجود الموجودين، وبعد رحيلهم عن مواقعهم… بحاجة إلى ثورة ثقافية في المفاهيم والرؤى والتعامل لتنجو سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن