ثقافة وفن

في سبيل العربية… وقرارات مصيرها الموت…التوصيات التي تخلص إليها المؤتمرات غير منفذة… وتتكرر في مؤتمراتنا

 إسماعيل مروة : 

«كلي أمل في أن تعمل الجهات المعنية على إنفاذ بعض المقترحات، ويا ليت قرار هذا الإنفاذ كان بيدنا، ورحم الله الدكتور طه حسين القائل: من المؤلم حقاً أن تكون لديك الرغبة، ولكن ليس بيدك القرار» بهذه العبارة يبدأ أستاذنا الدكتور محمود السيد كتابه الأحدث صدوراً (في سبيل العربية) والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، واخترتها لما فيها من دلالات على الخيبة من أن المقترحات والتوصيات في جلّ المؤتمرات والملتقيات تبقى حبراً على ورق، مما خلف خيبة لدى الباحث، وهذا الأمر ليس جديداً، فمنذ زمن لا يعمل بالتوصيات، وهذا ما دلّ عليه قول طه حسين… ولكنه يختم مقدمته بإصرار ابن العربية «تلك هي دعوات صادقة إلى ضرورة العضّ بالنواجذ على ما تبقى لدينا من ثوابتنا القومية متمثلاً في هذه اللغة الشريفة التي وسعت كتاب الله، وحافظت على الهوية العربية والثقافة العربية رغم المحن التي ألمّت بالأمة العربية والأرزاء التي انتابتها…».

الخبرة والحرص والمسؤولية
تجود المطابع كل يوم ببحث أو كتاب عن اللغة العربية والدفاع عنها، وأغلب هذه الكتب تصدر عن محب مغالٍ أو خصم عنيد، فهذا يدافع دفاعاً مرضياً إنشائياً حماسياً لا يدل على الطريق التي يجب أن نسلكها للحفاظ على اللغة ونصاعتها، مع تطويرها وتجديدها باستمرار لتبقى على مكانتها، وذاك يقاطعها مقاطعة عنيد رافض، انطلق من موقف العداء ما يمنعه من رؤية أي إيجابية في اللغة، لذلك يرى ضرورة انتقاء لغة أخرى تناسب العصر! ولكن المنصفين قلة، ومنهم أستاذنا الراحل الدكتور عبد الكريم اليافي الذي نافح عن اللغة ما استطاع، ومن أكثر أساتذتنا نشاطاً الأستاذ المجمعي الدكتور محمود السيد الذي لا يمر موسم إلا مع دراسة أو أكثر للدفاع عن العربية في محفل أو مؤتمر، وتتسم دراسات الدكتور السيد بالمصداقية لعدة أسباب:
– تعمقه النادر بالعربية أدباً ولغة، فالدكتور السيد يكتب ويتحدث ويحاضر، ولا تقع على لحن ولو كان اللحن عفوياً في كلامه.
– إخلاصه للعمل التربوي، وخاصة في جانب اللغة وطرائق التدريس، وأزعم- يقيناً- أن الدكتور السيد الوحيد عربياً الذي كان تربوياً ولغوياً من هذا الطراز، أما من جاء بعده في كل موقع لا علاقة لهم باللغة، وهم أقرب إلى الخصومة للغة بسبب جهلهم، ويدّعون أن التربية أمر، واللغة أمر آخر!
– المواقع العربية والعالمية تربوياً التي تسنّمها الدكتور السيد خبيراً وأستاذاً تقديراً لخبرته ومعرفته وتجربته الطويلة في ميادين اللغة والتربية.
– وعلى الصعيد المحلي لا تجد خلافاً بين اثنين على مكانة الدكتور السيد وعلمه ولغته وحرصه، سواء كان وزيراً للتربية أو الثقافة، أم كان مجمعياً ومديراً عاماً لهيئة الموسوعة العربية، وإن كان من مأخذ، فهو أن علم الدكتور السيد أكبر من الموقع الواقعي.

من المناهج إلى المشكلات والتعريب
ذلك الحديث له ما يسوّغه، فكثير ممن تحدثوا في اللغة وعنها لم يجولوا في ميادين اللغة العلمية، وفي هذا الكتاب يقسم الدكتور السيد دراساته إلى (تصميم المناهج الجامعية، أثر اللغة في الكيان العربي، مستقبل اللغة العربية ومتطلبات العصر القادم، مشكلات اللغة العربية، قضايا تنسيقية ملحة في مسيرة التعريب، اللغة العربية واللغات الأجنبية في التعليم العام، واقع تدريس اللغة العربية في الجامعات، الاستثمار في اللغة العربية ثروة قومية، التجربة السورية في تمكين اللغة العربية) هذه التطوافة مع الفصول تظهر خصوصية الكاتب، فهو عندما يكتب عن مناهج الجامعة يملك الخبرة، وقد مارس مهامه فيها، وعندما يتحدث عن اللغة والكيان العربي فهو مشارك في أغلب المؤتمرات عربياً وعالمياً، وعندما يتحدث عن التعريب، فهو عضو مشارك وفاعل في هذا المجال ضمن لجان مراكز التعريب، واللغة في التعليم العام من واقع خبرته، والاستثمار هو خلاصة تجربته، وتمكين اللغة العربية في التجربة السورية فيها من شخصيته الكثير، فأنا أمام أبحاث قدمها الدكتور السيد من واقع تجربته، ولم يكتف فيها بالتنظير على المتلقي.
«ها هي ذي باقة من البحوث التي ألقيت في عدد من المؤتمرات العلمية اللغوية، وقد اشتملت في معظمها على توصيات ومقترحات هدفت إلى العناية باللغة العربية ومعالجة بعض مشكلاتها..» وقد اشتملت الأبحاث مشكلات عولجت في الملتقيات من عام 1995 وحتى عام 2015 كما أشار المؤلف في مقدمته، ومرارة عدم تطبيق التوصيات والمقترحات تسوّغ نشر هذه الدراسات، فلو أنه تمّ العمل على تنفيذ المقترحات، ما كان من الضرورة أن نذكرها، لأنها تكون قد عولجت وانتهى الأمر، وننتقل بعدها إلى مشكلات أخرى، ولكن إمعان النظر يظهر قيمة الأبحاث، فالمشكلات تبقى وتضاف إليها مشكلات أخرى، وهذا التراكم إذا ما استمر فسيصل بنا إلى مرحلة شائكة من المشكلات التي تصل مرحلة التشكيك باللغة وقدرتها ودورها، ويزيد من المشكلات تردي الواقع العربي إلى درجة كبيرة، ما يعزز القناعات بأن اللغة جزء من هذا الواقع!

الكيان العربي والاستهداف
قد لا يلقي أحدهم بالاً إلى بعض المجريات التي تضر بالكيان العربي، ولكن المتابعة من الباحث لما يجري، ورؤيته السياسية الثاقبة أظهرت خطورة ما يجري، ففي بحث ألقي 2010 م قبل أن تحدث عاصفة ما يسمى بالربيع العربي، وأنجز قبل تلك الفترة حتماً يقف المؤلف عندما يهدد الشخصية العربية، واللغة والمصطلح وسيلة لهذا التهديد «منطقة الشرق الأوسط مصطلح يشمل منطقة لا هوية لها لإزالة الهوية العربية، وليحل هذا المصطلح مكان الوطن العربي أو البلاد العربية، أو الأمة العربية، والغاية من ذلك كله القضاء على الطابع العربي، وإقحام إسرائيل في المنطقة.. ومن المصطلحات، الشراكة الأوروبية المتوسطية، وأسقط الشريك العربي.. وكان من الواجب أن يكون التعبير الشراكة الأوروبية العربية المتوسطية، والقصد هو تغييب الصفة العربية..».
وفي الحديث عن الإعلام يبرز الدور الإيجابي للصحافة العربية في القرن الماضي في تطوير اللغة العربية، ولكن الانفجار الإعلامي الذي أشار إليه 1990، ويقول من الملاحظ أنه كان للفضائيات التلفزية العربية دور شديد السلبية في الإضرار باللغة العربية، وتجلى ذلك في اختيار أسماء بعضها.. وتجلى الإضرار باللغة العربية في اعتماد اللهجات المحلية المغرقة في عاميتها، ومن المعروف أن العاميات أداة تفكيك لنسيج الأمة الثقافي على حين أن الفصيحة عامل توحيد.
ومتابعة المؤلف لم تترك جانباً ، ففي الوقت الذي يفترض أن يكون الخطاب الديني عامل رفع لغوي يرصد المؤلف (الخطاب الديني على القنوات الفضائية)، تشير الإحصاءات إلى وجود ما لا يقل عن ستين قناة تلفزة دينية تسبح في الفضاء العربي وتقدم في أحيان كثيرة خطاباً دينياً وعظياً يعتمد العامية بحجة التبسيط والوصول إلى مختلف المستويات كما يزعم أصحابه..
ورداً على من يقول بضرورة اللغة الأجنبية يقول المؤلف: (لا نعرف بلداً واحداً في غير الوطن العربي أقدم أو حتى فكر أو عمل على تدريس العلوم والرياضيات بغير لغته القومية من فرنسا إلى الصين واليابان والبرازيل وكوريا وألبانيا والمجر وفيتنام وإسرائيل…! والتعريب لا يعني الانغلاق المنافي لجوهر الحضارة العربية).
وها هو يقول: (إن العروبة ليست رداء نرتديه ساعة نشاء ونخلعه ساعة نشاء إنها قدرنا ولون عيوننا ولحمنا ودمنا وكياننا).

هل أدركنا العلاقة بيننا وبين لغتنا؟!
الحياة واللغة: ولا يكتفي الدكتور السيد بالحديث عن اللغة والأدب والفخر والإنشاء، ولو اكتفى بذلك لكان حديثه حديث دفاع عن عاجز، لكنه انطلق من واقع خبرته ومشاركاته العلمية وفي إشاراته العلمية إلى التقارير العالمية «توجه الاهتمام إلى الاقتصاد غير المادي، وقوامه اللغة لتحديد أهم معالم الاقتصاد الحديث.. ويرى سيمل في مؤلفه (فلسفة النقود) أن أفكاري يجب أن تتخذ شكل اللغة المفهومة لعموم الآخرين حتى أستطيع أن أحقق غاياتي العملية بهذه الطريقة غير المباشرة، وأن نشاطاتي وممتلكاتي يجب أن تتخذ شكل القيمة النقدية من أجل خدمة أغراضي الأبعد مدى…
ولا يكتفي بذلك، بل يضع معادلات الاستثمار في اللغة العربية، ويظهر أنها رابحة لاتساع السوق، وتفاعل الثقافة العربية والإسلامية مع ثقافات العالم، ومرونة اللغة العربية، وأهم الميادين التي يرى الاستثمار فيها ممكناً (تصنيف المعاجم العامة، تصنيف معاجم المصطلحات، معالجة النصوص، الترجمة الآلية، الذكاء الصناعي، الاتصال بين الإنسان والآلة).
وقد وقف الدكتور السيد عند تجربة سورية في تمكين اللغة العربية والتي لا يزال الحديث فيها عاطفياً، لأنها لم تأخذ حقها، وتعامل إلى اليوم على أنها قرار سياسي، ولم تعامل على أنها حاجة مجتمعية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن